أعطت غزة المدينة اسمها لقطاع غزة؛ وأعطى تمثال الجندي المجهول اسمه للساحة. وتبقى العبارة، نصاً أو معنى، هي ذاتها، أو تقريباً، على كل نصب للجندي المجهول في كل بلد: «اسمك مجهول وفعلك خالد».
مجسّم يبدو أقصر قامة من الحجم الطبيعي، يعلو درجات قليلة، لا فخامة ولا أبهة فيه، في يده بندقية قديمة، وفي الأخرى ذراع ممدودة مستقيمة يشير اصبع السبابة في كفها إلى: هناك البلاد السليبة؛ وهناك العدو المحتل.في حربي العامين 1956 و1967 احتل الغزاة المدينة والقطاع.. والصحراء خلفهما، وأطاحت جرافة لجيش الاحتلال الجديد بالتمثال، كأنها تقول ما قاله الجنرال غورو بعد احتلال الشام: ها قد عدنا يا صلاح الدين!
بعد عودته إلى أرض البلاد، أمر القائد ـ الرمز، الذي صار الرئيس ـ المؤسس لانبعاث فلسطين، بإعادة بناء التمثال ـ الرمز كما كان.. دون إضافة من الفخامة والأبهة والضخامة، صراعنا يدور، أيضاً، على جبهة الرموز والرواية.
على تعدّد الساحات والميادين في مدن فلسطين، قبل وبعد حقبة السلطة الوطنية، بقيت ساحة الجندي المجهول هي الأرحب والأجمل، والأكثر تشجيراً. شيئان لم يتغيرا، لا في المكان ولا في الشكل: التمثال القديم أعيد بناؤه كما كان، وكذا مبنى المجلس التشريعي القديم.. لكن غزة، المدينة والقطاع لم تعد هي ذاتها بعد العام 2007، وأعضاء المجلس التشريعي في انتخابات العام 2006 صاروا يشرّعون ضد الشرعية، أو ينتحلون صفتها، ويرسلون رسائل بهذا المعنى إلى برلمانات العالم، وحتى إلى الأمم المتحدة.. وأخيراً، في مؤتمر فصائلي بموسكو انسحبوا من صفة (م.ت.ف) كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني. في المقابل، أسقطت الشرعية الفلسطينية مشروع قرار في الأمم المتحدة يعتبر «حماس» إرهابية!
في البداية، انسحبوا من نهج الكفاح المسلح، ثم من خيار الانتخابات، ثم انتحلوا صفة المقاومة الفلسطينية والكفاح المسلح، وأخيراً منذ عام تقريباً لم يوفّروا انتحال المقاومة الشعبية السلمية!.. وبنوا للعودة خمسة مخيمات أخرى!
انتقلوا من وصف شهداء الكفاح الفلسطيني، على منابر مساجدهم بأنهم «فطايس»، إلى تقديس الموت والشهادة على السياج باسم مسيرات العودة الكبرى. كانت غزة المدينة والقطاع نواة دولة فلسطين، وصارت نواة «الإمارة» و»الخلافة».. والانتحال.
بينما ترى منظمة التحرير أنها استئناف لما سبقها من نضال الشعب الفلسطيني، شعبياً وكفاحياً وسياسياً، فإن حركة «حماس» ترى أن تأسيسها ونضالها بعد العام 1987 هو البداية الحقيقية للنضال والكفاح المسلح.. والشعبي!
في مقاومة غزة للاحتلال الإسرائيلي، بعد عامي حرب السويس وحرب حزيران النكسة. سقط شهداء عسكريون مصريون وفلسطينيون، كما سقط مدنيون في الغارات الانتقامية، البعض لهم أسماء، والآخر نسي الناس أسماءهم لا ذكراهم.. وللجميع كان تمثال الشهيد المجهول أو الجندي المجهول، بمن فيهم شهداء الحروب الغزية الثلاث بعد العام 2007.
التمثال الذي هدمته إسرائيل، وأعاد عرفات رفعه كما هو، لم يعد في مكانه، وبنوا على قاعدته شكلاً آخر، مبهرجاً وملوناً فنياً، لكن رمزياً لم يعد كما كان، وإن كان سيبقى، على الأغلب، اسم الساحة كما هو: ساحة الجندي المجهول.. حتى وإن أزاحوا التمثال، فسيعاد رفعه كما كان، حتى وإن غيروا اسم الساحة فسيبقى على ألسنة الناس كما هو.. وسيعود كما كان.
التمثال ليس صنماً ولا وثناً، بل هو مجرد رمز احترام ووقار لضحايا نضال الشعب، عسكريين ومدنيين، خلال أكثر من قرن كفاح وصراع، قبل النكبة وبعدها، وخلال النضال داخل أرض فلسطين وفي المنافي.. وإلى زمن ما بعد الحرية والسيادة والاستقلال، حيث نستعيد عظام الشهداء في مقابر المنفى لنواريهم الثرى في أرض البلاد.
ولّى زمن عبارة الأوثان والأصنام، ويبقى إلى الأبد زمن تكريم الشهداء وقتلى الحرب بتماثيل الجندي المجهول: اسمك مجهول وفعلك خالد.
قد يبدو العنوان نوعاً من انتحال السفسطة للفلسفة، أو انتحال المشروع الوطني بمشروع ديني إسلامي، او انتحال الشرعية الوطنية بأخرى عابرة أو زائفة، أو شكلاً مخففاً من «الداعشية» و»الوهابية». تمثال الجندي المجهول ليس فخماً ولا صرحاً ضخماً، لكنه رمز وطني، سيعاد رفعه مرة ثالثة كما هو، وكما الاسم الذي أعطاه لأجمل ساحات فلسطين.
حكمة !
بعض رواة الحديث ينسبونها إلى الرسول الأعظم، والآخر إلى إمام البلاغة علي بن أبي طالب. هاكم هي:
«أحبِبْ حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما».
حسن البطل
0 تعليق على موضوع : شو يعني تجهيل المجهول؟ حسن البطل
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات