تبنت أنديرا منذ بداية الثمانينات خطابا دينيا هندوسيا فاقعا، وتحالفت مع المتطرفين الهندوس، وبدأت في الظهور في المعابد لكي تتلمس مظاهر الورع.
الجمعة 2018/11/02سقوط أنديرا غاندي كان صدمة للعالم
بقلم : عدلي صادق
في الحادي والثلاثين من أكتوبر 1984، أي قبل 34 عاماً، كان اثنان من حراس رئيسة الوزراء الهندية، أنديرا غاندي الموثوقين، يسيران معها في أحد ممرات مقر رئاسة الحكومة. وبينما كانت تهم بدخول بوابة تُفضي إلى الصالة لكي تلتقي المخرج والممثل الروسي البريطاني بيتر أوستينوف، الذي جاء مع فريقه لعمل فيلم وثائقي عنها للتلفزة الأيرلندية؛ فاجأها أحد الحارسين بثلاث طلقات في صدرها، ثم تقدم الثاني وأفرغ 30 رصاصة في جسدها من بندقيته الرشاشة، لتلفظ أنفاسها الأخيرة رغم امتناع الجراحين لنحو عشر ساعات عن التسليم بموتها. فقد بذلوا محاولات لإنقاذ امرأة ماتت.
كان سقوط أنديرا غاندي، صدمة للعالم. فهي أميرة السياسة وكريمة وتلميذة جواهر لال نهرو، الرجل ذو الهندام الأبيض الناصع، الذي ترأس أول حكومة للهند المستقلة، وأمضى حياته يحلم بالدولة العلمانية التي تكرّس المساواة بين مواطنيها، وتحبط بكل حزم، أيّ محاولة لتفشي الأصوليات الدينية. كان والدها يرى الأصوليات رؤوس أفاعٍ سامة، تقتل الدولة وتأخذ مواطنيها إلى مربعات التذابح، ويرى أيضا أن الأصوليات في بلاده ذات منشأ بريطاني في الأساس.
قليلون في العالم الذين كانوا يعلمون، أو حتى علموا بعدئذ، أن أنديرا حادت عن نهج أبيها ولعبت مع الأفعى الأصولية، لكي تساندها. فللسيدة أنديرا سمعة طيبة في العالم الثالث، وكانت مقدّرة في العالم العربي، لموقفها المساند للقضية الفلسطينية وقضايا التحرر. لكنها بعد نحو عشر سنين، من وفاة أبيها، توجهت بـ”حزب المؤتمر” إلى المنحى النقيض، فتوددت إلى الأصولية الهندوسية المتطرفة، ثم تحالفت معها في رد خاطئ، بمنطق التنافس، على التنامي المتسارع للحركتين المتطرفتين “ماها سبها” و”منظمة المتطوعين القوميين آر.إس.إس”.
كانت لأنديرا قبل تحولها ذاك، مآثر عديدة في السنوات الأولى لحكمها الذي بدأ في العام 1966 عقب وفاة “لال بهادور شاستري” خليفة أبيها. كانت ورثت عن الأب، فكرة التنمية وتحسين حياة الشعب ومكافحة الفقر، باعتبارها ضمانات نشوء مجتمع أقل انقساماً، وبناء نظام جديد، بعد الحقبة الاستعمارية، غير تمييزي في تعاطيه مع الأقليات، ومحايد في الشؤون المتعلقة بالدين، ومصمم على عدم جعل الديانة قوة اجتماعية محركة للسياسة في اتجاه معاكس للوطنية.
وكانت أنديرا الصغيرة، التي رافقت حياة والدها قبل الاستقلال، على قناعة بأن دسائس البريطانيين، عندما انطلت على الساسة الهنود المسلمين، هي التي تسببت في الانقسام وتأسيس باكستان، الذي أودى بحياة خمسين ألف مواطن، واقتلع اثني عشر مليون مواطن من ديارهم، نصفهم من الهندوس الذين كانوا يقطنون في أراضي باكستان، ونصفهم مسلمين كانوا يقطنون في الهند. كان لا بد، بالنسبة لنهرو، وقد أدمت قلبه تلك الوقائع، أن يتبنى الدعوة إلى التسامح الديني، وتوظيف وسائل الإعلام والثقافة للتأكيد على أن التناغم بين مختلف المجموعات والطوائف، هو القيمة الجوهرية لحزبه.
لكن هذا الحزب شهد حتى في أوائل حكم نهرو، تسلل عناصر هندوسية متطرفة إلى صفوفه، تنتمي سراً إلى المنظمتين المتطرفتين. كان أحد هؤلاء، هو ساردار باتل، أحد أهم مؤسسي جمهورية الهند والمناضلين من أجل الاستقلال، الذي ساند إحدى الشخصيات الهندوسية الأصولية للفوز برئاسة حزب المؤتمر. لكن نهرو أطاح به في مؤتمر طارئ للحزب، لتشهد المرحلة من العام 1951 إلى 1966 صعوداً لنجم نهرو تخلله فوز حزب المؤتمر بأكثر من ثُلثي مقاعد البرلمان.
لكن حكم أنديرا الذي لاقى إجماعاً في السنوات الأولى، بدأ في التراجع، بسبب الإخفاقات الاقتصادية وبطء التنمية. ومعلوم أن الإخفاق الاقتصادي من شأنه إخراج الأصوليات من القمقم. وسرعان ما بدأ التصدع في “حزب المؤتمر” نفسه، الذي انقسم إلى جناحين (“آر” تتزعمه أنديرا، و”أو” للمحافظين ذوي الميول الأصولية الهندوسية).
وفي البداية اضطرت أنديرا للتحالف مع المجموعات اليسارية لكي تجتاز انتخابات عام 1971، ولما فقدت رئاسة الحكومة عام 1977 لصالح الحزب اليميني “جاناتا” سرعان ما خسر الفائزون الحكم بسبب رعونتهم في تقصُّد أنديرا شخصياً ومحاولات زجها في السجن، ما أدى إلى التعاطف الشعبي معها وإنقاذها عام 1980، لكي تعود إلى رئاسة الحكومة وتبدأ رحلة الذهاب إلى حتفها بالوسيلتين القاتلتين: التحالف مع الأصوليين سعياً إلى الاغتراف من جمهور حزب “جاناتا” ولجمع كتلة شعبية مؤيدة لها. والوسيلة الأخرى، هي التغاضي عن الفساد وعن أسباب إفقار المجتمع.
تبنّت كريمة نهرو، منذ بداية الثمانينات، خطابا دينيا هندوسيا فاقعا، وتحالفت مع المتطرفين الهندوس الإقصائيين، وبدأت في الظهور في المعابد لكي تتلمس مظاهر الورع، وزادت فتحدثت عن مخاطر تمثلها الأقليات الدينية على البلاد. وعندما هاجم الهندوس المعبد الرئيسي “الذهبي” لطائفة السيخ، بررت الهجوم بأن ديانة الهند وشعبها كانا يتعرضان للهجوم، علماً بأن عدد السيخ لا يصل إلى 4 بالمئة من سكان الهند. وقد أثارت الهندوس على المسلمين في ولاية كشمير، ونددت بمقاصد زعيمهم المنتمي إلى حزبها، وهو الشيخ فاروق عبدالله واتهمته بأنه غير وطني وعميل لباكستان، لكي يهيمن الهندوس على الإقليم.
وانقض الهندوس المتطرفون على السيخ في إقليم البنجاب، قتلاً وترويعاً، ما جعلهم يطالبون بالاستقلال للتخلص من المظالم، وتحصن مقاومون منهم في “المعبد الذهبي” فاضطر رجل حزب المؤتمر وصديق آل نهرو، السيخي بهاندرا نويل إلى التواجد مع جماعته في داخل المعبد، لكن أنديرا وبتحريض من أصوليي “رجال الرب” ، أمرت الجيش بالهجوم على المعبد الأكثر قداسة عند السيخ. وكانت نتائج الهجوم تدمير الكثير من أجزاء المعبد، ومقتل 500 من الكهنة والمتعبدين، ومن بينهم “بهاندرا نويل” نفسه.
كان ذلك أكثر من كاف، لأن يقتلها اثنان من محبيها الحراس، المنتمين إلى طائفة السيخ. فبعد أن أفرغ الحارسان رصاصهما، ألقوا السلاح وقال أحدهم “لقد فعلتُ ما أريد.. افعلوا الآن ما تريدون”. وهكذا كانت خاتمة اللعب مع الأفاعي.
عدلي صادق
كاتب وسياسي فلسطيني
0 تعليق على موضوع : درس الأصولية في الهند: خاتمة اللعب مع الأفاعي
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات