ما يناسب الحال الفلسطينية هو إنهاء الانقسام، وإعادة الفاعلية السياسية للنظام الفلسطيني، واستعادة العلاقات مع المجتمع الفلسطيني ومع الأشقاء والأصدقاء، والتوافق على استراتيجية عمل وطني واقعية.
الجمعة 2019/03/29غزة لا تملك ترف الهجوم
في الثامن من مارس عام 2002 وفي ذروة الاشتباك الفلسطيني مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في ما عُرف بانتفاضة الأقصى، وهي الانتفاضة الطويلة الثانية؛ ودعت غزة قائد قوة الأمن الوطني في منطقة جنوبيْ القطاع، اللواء أحمد مفرج (أبوحميد) إلى مثواه الأخير، في جنازة حاشدة ومهيبة، كأنما زادها شجنا ما استقر في الوعي الباطني لمن يعرفون الرجل، بأن الفقيد الذي سقط في الميدان، وهو من أصول مصرية، يختزل في شخصه حال غزة نفسها وشخصيتها التاريخية.
لم تكن قوات الاحتلال الإسرائيلي في تلك الأيام قد أخلت قطاع غزة من جنودها ومستوطناتها. وكانت الاشتباكات تجري مع الشبان ومع مسلحي الفصائل، وكان اللواء أبوحميد، حسب التوصيف الرسمي لوظيفته بموجب اتفاق أوسلو لإعلان المبادئ، على رأس قوة التنسيق الميداني مع القوات الإسرائيلية في أشد مناطق قطاع غزة سخونة، ما يعني أن الرجل يُفترض أن يكون محايدا ميدانيا ومهمته تنحصر في التهدئة ومراقبة التعديات الإسرائيلية على الخطوط والتدخل بالاتصالات، لإعادتها إلى مواقعها.
لكن تداعيات المواجهات في قطاع غزة، ضيّقت الفجوة بين شباب الفصائل المسلحين، والقوات الفلسطينية النظامية التي يُفترض أنها ملتزمة بالاتفاقات. وقبل بضعة أيام من سقوط اللواء أحمد مفرج شهيدا، ألقى ضباط الاحتلال في اجتماع التنسيق الدوري بين العسكريين من الجانبين، تحذيرا للواء أبوحميد، الذي لم يكن حاضرا، واتهموه بتزويد الشُبان بالسلاح والذخائر والتعليمات.
وفي الواقع لم يكن الأمر في أذهانهم يقتصر على التحذير، فقد أضمروا تصفيته وكانوا يعرفون طبائعه: فالرجل لم يخلع البزة العسكرية في حياته، ولم يعرف الحياة المدنية، في الجوار والساحات، منذ حرب 1967، وخدم بعد غزة في مصر والأردن واليمن وسوريا ولبنان ثم عاد إلى غزة، وعُرف من طباعه أنه كلما سمع عن اشتباك أو معركة أو توتر، يقفز ويتوجه مسرعا بالسيارة المتاحة، إلى موقع الحدث دونما تردد، وبطريقة الانقضاض.
كان ذلك هو أحد أهم طبائع الرجل الأسمر طويل القامة، الذي انتقل في منتصف الستينات من لاعب كرة سلة، إلى الخدمة العسكرية، بتأهيل مبسط في كلية ضباط الاحتياط، زاهدا في علوم التخطيط المعمق ودراسات أركان الحرب. فقد اختار أن يظل متحفزا في كل لحظة للهجوم. وعلى هذا الأساس، تعمدوا الاختراق بالدروع، من الحدود شرقي خان يونس، وهي منطقة انتشار قوات الأمن الوطني، وكانوا على يقين بأن أبوحميد سوف يخفّ مسرعا هو ومن يتواجد معه من الجنود، إلى نقطة الاختراق. هكذا حدث وقد كانوا في انتظاره، وعندما تلقى زخة الرصاص وسقط، كانت الرماية تتعمد الحيلولة بين الجنود وإنقاذه. فقد عرفوا مسبقا أن الرجل مريض بالسكر، لذا تركوه ينزف، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.
اللواء أحمد مفرج الرجل الذي لم يخلع البزة العسكرية
ربما يستغرب القارئ، ما شأن هذه الحكاية بالسطور المخصصة للتحليل السياسي أو التعليق على الأحداث. الجواب أن البطل في الحكاية يلخص المشهد الآن في غزة. ففي عام 2002 كان المتحفزون للهجوم، بشجاعة وبكل الأسباب المعنوية والأخلاقية الموجبة للدفاع عن النفس -ولكن دون أن يحسبوا-، أفرادا قلائل، وكان أبوحميد أبرزهم وأهمهم من بين العسكريين النظاميين، ولاسيما عندما تماهى الرجل مع المقاومين الشُبان غير النظاميين.
أما اليوم فإن ما نراه في غزة، أن هناك قوة عسكرية، لا هي نظامية ولا فدائية شعبية وإنما خليط من النسقين، تهب هي كلها، أو بعضها في حالات أخرى، ودون أن تحسب النتائج، قبل إطلاق القذائف الصاروخية، وكلما وقعت جريمة بأيدي قوات الاحتلال. ومع تكرار خوض هذه القوة، في معارك قصف مقابل قصف، أدرك القادة السياسيون من الجانب الفلسطيني أن الرد الإسرائيلي من الجو، وبالقصف من بعيد، يُعرض قطاع غزة للخسارة الفادحة، دون أن يُمنى العدو بخسائر تُذكر.
بل لوحظ إن قوات الاحتلال، هي التي تختار حجم الخسائر التي تريد إلحاقها بالطرف الفلسطيني، وهذا الاختيار يظل متصلا بانفعالات الرأي العام الإسرائيلي ومدى تأثره بالقذائف الصاروخية وغيرها. ذلك علما بأن للجانب الإسرائيلي معاييره التي تعكس غروره واستعلاءه.
فعلى سبيل المثال، يمكن أن تُعدّ مزاعم امرأة، بأنها أصيبت بالهلع إصابة نجلاء في الجانب الإسرائيلي، أما سقوط ثلاثة شبان فلسطينيين في مقتبل العمر، فليس طعنة نجلاء بالنسبة للجانب القيادي الفلسطيني، وبالطبع هو غير ذلك بالنسبة لذوي الشهداء ومحبيهم وأصدقائهم!
وفي ضوء إحساس القادة الفلسطينيين في غزة بأن حسبة الربح والخسارة باتت مهمة إجبارية، بحكم توالي الخسارة، وتهديد الجانب الإسرائيلي بما يسميه “العودة إلى سياسة الاغتيالات”، بدأت الأمور تتجه إلى ضبط اللغة اليومية المحكية، والاقتناع بأن غزة لا تملك ترف الهجوم دون أن تتعرض لخسائر ثقيلة، وباتت حكاية التهدئة منطقية ومريحة ومرجوّة، مع وجود عاملين يؤثران على الموقف، ويفتحان المجال لتجدد القصف والقصف المتبادل: وجود عناصر ليست على قناعة بالتهدئة مهما كلف الأمر، وهذه ليس من السهل حصرها واحتواؤها.
والعامل الثاني أن الذين يفاوضون على التوصل إلى تهدئة، يحرصون على رفع سقف المطالب للحفاظ على ماء الوجه، لاسيما وأن تغيير الاستراتيجيات محرج أمام الرأي العام، وخاصة عندما يكون مبدأ المقاومة التي لا تتوقف ولا تتثاءب، هي علة وجود حماس في الحكم في غزة، وهي منطلق التطاول على الشهيد الزعيم ياسر عرفات في حياته وبعد رحيله.
ربما هناك عامل ثالث، يجعل من الصعوبة إلزام عناصر القوة العسكرية في غزة، باعتماد مبدأ تنمية القوة النظامية كقوة دفاع وطنية ليست لديها مهام هجومية. وهذا العامل يمثله تطور أو تضخم القوة الصاروخية من حيث الحجم والمدى. وبالطبع ليس من مصلحة ناصحين عسكريين مؤهلين، سواء من إيران أو غيرها، التنبيه إلى أن ما تمتلكه غزة ليس إلا قذائف صاروخية، بحشوات دفع ورؤوس قنبلية، وليست صواريخ ذكية يجري التحكم الرقمي في مسارها، وتحديد أهدافها بدقة عبر الأقمار الاصطناعية. فهذه الأخيرة في حاجة إلى بنية تقنية أخرى، يصعب بناؤها في غزة. فحتى اتصالات الإنترنت والهاتف الخلوي في غزة، يعتمدان على إسرائيل.
على الرغم من حجم النُبل الذي يمثله الرد على كل اعتداء إسرائيلي بالقصف، وهو نبل يماثل الجاهزية والمثابرة التي عاش وقضى على دربهما اللواء أحمد مفرج، فإن هذه الأرجوحة لم تعد تناسب الحال الفلسطينية. ما يناسبها هو إنهاء الانقسام، وإعادة الزخم للفاعلية السياسية للنظام الفلسطيني، واستعادة العلاقات مع المجتمع الفلسطيني ومع الأشقاء والأصدقاء، والتوافق على استراتيجية عمل وطني واقعية لا تفرط ولا تنكسر من جراء خاصيّة التخشب، والمضي قدما وبخطى راسخة، في حمل رسالة الاستقلال والحرية!
عدلي صادق
كاتب وسياسي فلسطيني
ربما يستغرب القارئ، ما شأن هذه الحكاية بالسطور المخصصة للتحليل السياسي أو التعليق على الأحداث. الجواب أن البطل في الحكاية يلخص المشهد الآن في غزة. ففي عام 2002 كان المتحفزون للهجوم، بشجاعة وبكل الأسباب المعنوية والأخلاقية الموجبة للدفاع عن النفس -ولكن دون أن يحسبوا-، أفرادا قلائل، وكان أبوحميد أبرزهم وأهمهم من بين العسكريين النظاميين، ولاسيما عندما تماهى الرجل مع المقاومين الشُبان غير النظاميين.
أما اليوم فإن ما نراه في غزة، أن هناك قوة عسكرية، لا هي نظامية ولا فدائية شعبية وإنما خليط من النسقين، تهب هي كلها، أو بعضها في حالات أخرى، ودون أن تحسب النتائج، قبل إطلاق القذائف الصاروخية، وكلما وقعت جريمة بأيدي قوات الاحتلال. ومع تكرار خوض هذه القوة، في معارك قصف مقابل قصف، أدرك القادة السياسيون من الجانب الفلسطيني أن الرد الإسرائيلي من الجو، وبالقصف من بعيد، يُعرض قطاع غزة للخسارة الفادحة، دون أن يُمنى العدو بخسائر تُذكر.
بل لوحظ إن قوات الاحتلال، هي التي تختار حجم الخسائر التي تريد إلحاقها بالطرف الفلسطيني، وهذا الاختيار يظل متصلا بانفعالات الرأي العام الإسرائيلي ومدى تأثره بالقذائف الصاروخية وغيرها. ذلك علما بأن للجانب الإسرائيلي معاييره التي تعكس غروره واستعلاءه.
فعلى سبيل المثال، يمكن أن تُعدّ مزاعم امرأة، بأنها أصيبت بالهلع إصابة نجلاء في الجانب الإسرائيلي، أما سقوط ثلاثة شبان فلسطينيين في مقتبل العمر، فليس طعنة نجلاء بالنسبة للجانب القيادي الفلسطيني، وبالطبع هو غير ذلك بالنسبة لذوي الشهداء ومحبيهم وأصدقائهم!
وفي ضوء إحساس القادة الفلسطينيين في غزة بأن حسبة الربح والخسارة باتت مهمة إجبارية، بحكم توالي الخسارة، وتهديد الجانب الإسرائيلي بما يسميه “العودة إلى سياسة الاغتيالات”، بدأت الأمور تتجه إلى ضبط اللغة اليومية المحكية، والاقتناع بأن غزة لا تملك ترف الهجوم دون أن تتعرض لخسائر ثقيلة، وباتت حكاية التهدئة منطقية ومريحة ومرجوّة، مع وجود عاملين يؤثران على الموقف، ويفتحان المجال لتجدد القصف والقصف المتبادل: وجود عناصر ليست على قناعة بالتهدئة مهما كلف الأمر، وهذه ليس من السهل حصرها واحتواؤها.
والعامل الثاني أن الذين يفاوضون على التوصل إلى تهدئة، يحرصون على رفع سقف المطالب للحفاظ على ماء الوجه، لاسيما وأن تغيير الاستراتيجيات محرج أمام الرأي العام، وخاصة عندما يكون مبدأ المقاومة التي لا تتوقف ولا تتثاءب، هي علة وجود حماس في الحكم في غزة، وهي منطلق التطاول على الشهيد الزعيم ياسر عرفات في حياته وبعد رحيله.
ربما هناك عامل ثالث، يجعل من الصعوبة إلزام عناصر القوة العسكرية في غزة، باعتماد مبدأ تنمية القوة النظامية كقوة دفاع وطنية ليست لديها مهام هجومية. وهذا العامل يمثله تطور أو تضخم القوة الصاروخية من حيث الحجم والمدى. وبالطبع ليس من مصلحة ناصحين عسكريين مؤهلين، سواء من إيران أو غيرها، التنبيه إلى أن ما تمتلكه غزة ليس إلا قذائف صاروخية، بحشوات دفع ورؤوس قنبلية، وليست صواريخ ذكية يجري التحكم الرقمي في مسارها، وتحديد أهدافها بدقة عبر الأقمار الاصطناعية. فهذه الأخيرة في حاجة إلى بنية تقنية أخرى، يصعب بناؤها في غزة. فحتى اتصالات الإنترنت والهاتف الخلوي في غزة، يعتمدان على إسرائيل.
على الرغم من حجم النُبل الذي يمثله الرد على كل اعتداء إسرائيلي بالقصف، وهو نبل يماثل الجاهزية والمثابرة التي عاش وقضى على دربهما اللواء أحمد مفرج، فإن هذه الأرجوحة لم تعد تناسب الحال الفلسطينية. ما يناسبها هو إنهاء الانقسام، وإعادة الزخم للفاعلية السياسية للنظام الفلسطيني، واستعادة العلاقات مع المجتمع الفلسطيني ومع الأشقاء والأصدقاء، والتوافق على استراتيجية عمل وطني واقعية لا تفرط ولا تنكسر من جراء خاصيّة التخشب، والمضي قدما وبخطى راسخة، في حمل رسالة الاستقلال والحرية!
عدلي صادق
كاتب وسياسي فلسطيني
0 تعليق على موضوع : جاهزية القصف في غزة وحسابات النتائج
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات