المشهد اليوم يمثل محض دليل إضافي على حقيقة أن طرفي الخصومة شغوفان بالتشظي والبغضاء، وأنهما يتيحان لخطط التصفية أن تتوغل.
السبت 2019/03/23حماس في مواجهة الشارع
مع استغراق الوعي الجمعي الفلسطيني، في التأسي على ما فعلته حماس في غزة، من الطبيعي أن يبتعد التركيز عن الذي يجري تحضيره لغزة ولحماس معا. فقد أصبح من شبه المؤكد أن وصفة خلاص غزة لدى من يريدون حل إشكاليتها، تتطلب بعض التغييرات الدراماتيكية، التي ستُقاد إليها حماس، مثلما قيدت فتح إلى مثيلاتها، بدءا من عملية الإفراغ من المحتوى الثوري المؤسساتي، وانتهاء بالتفاوض على كيفية سحب ما يسمى السلاح من المقاومين في الضفة وملاحقتهم إن رفضوا تسوية أوضاعهم الأمنية.
على هذا الصعيد المتعلق بحماس، تختلط الترجيحات وكلها حمّالة أوجه. ولعل المدركين لحقيقة أن الأمور ذاهبة في اتجاه الإلحاح على سحب السلاح الثقيل، يتحضرون لاختيار صيغ الكلام التبريري مستفيدين من تفوقهم الخطابي، بينما الأوجب، كان ولا يزال هو التحضر لمقاومة المآل الذي يريده المحتلون وسوى المحتلين، لحركة حماس. وكيف يكون الاستعداد، إن لم يكن بقوة الجماهير والقوى السياسية والاجتماعية وبالشباب الذين أثخنتهم بالجراح.
ربما يستبعد البعض أن يكون هذا السيناريو مطروحا مثلما استبعدوا قبل نحو عشرين سنة، أن يخترق الإسرائيليون جبهة الفلسطينيين ويستفيدوا من فوضى الاستراتيجيات، ومن اختلال التوازن بين العسكرة وضرورات التلاحم الشعبي والتوافق الوطني. فعندما رفض الزعيم الشهيد ياسر عرفات الحل الإسرائيلي الذي تدعمه واشنطن كانت نقطة الضعف في جبهته تتمثل في السجال الداخلي والمزايدات. فهذه ساعدت على وضع الرجل أمام الاختيار الصعب لواحدة من اثنتين: إمّا الخضوع وبيع التضحيات الفلسطينية بثمن أقرب إلى المجّان استجابة لشروط شارون، وإمّا الصمود مرّة أخرى وستكون المرة الأخيرة. اختار الرجل الثانية وقضى على درب الراحلين الكرام من رموز الشعوب والأمم.
كان طبيعيا أن يرفض “الختيار” الاستجابة لمطالب شارون الذي كان يريد حسب لغته وأوصافه: تنفيذ حملة اعتقالات شاملة وتجريد جميع الفصائل من أسلحتها، وأن تكون إسرائيل وحدها الجهة المخوّلة بتعريف الإرهاب وجمع الأسلحة الفلسطينية وتدميرها برعاية أميركية والتعهد بعدم تكرار العمليات الانتحارية، وضمان ذلك عن طريق خطة أمنية دائمة يكون الضباط الإسرائيليون جزءا من هيكلية تنفيذها، وإنهاء كل أشكال التحريض ضدّ إسرائيل، في المساجد ووسائل الإعلام، كما في الكتب المدرسية وشاشات التلفزة الدولية. عندما رفض ياسر عرفات هذه الشروط، أعلن جنرالات إسرائيل عن عزمهم تغييبه سريعا، وقالوا إنه يمثل بالمؤسسات الفلسطينية التي معه العقبة الكأداء.
حين نتأمل اليوم شروط شارون التي رفضها عرفات، نتبين إلى أي مدى نجحت تطبيقاتها على الفلسطينيين. ولم تكن التطبيقات ستحقق مثل هذا النجاح، لو أن الطيف الفلسطيني حافظ على نفسه، وتوافق على استراتيجية عمل وطني واحدة، منطقية ومعقولة وفيها عناصر القوة السياسية.
في هذا السياق لم تتوقف حركة الإفراغ لمحتوى الحركة الوطنية الفلسطينية، وإطلاق العنان للسجال المرير، لإفراغ المشهد الفلسطيني من الأحياء المبجلين، وفي هذا السياق ركز منخرطون من كل الأطراف، على ممارسة لعبة الكلمات المتقاطعة من التشكيك والتخوين، ليصبح الفلسطينيون بالمحصلة، شعبا ليس فيه محترم واحد لم يأته الباطل اللفظي من يمين أو شمال. لقد أدخل الطرفان، عباس وحماس، الفلسطينيين إلى سجال يلدُ سجالا، وذهبا بهم إلى خيبة تلد أخرى، وكل طرف يزعم العفة والرشاد لنفسه، وضاعت رؤية الحقائق من حولنا، وحلت المكابرة والأوهام، لتتداعى إحباطات السياسة وإحباطات المقاومة.
المشهد اليوم يمثل محض دليل إضافي على حقيقة أن طرفي الخصومة شغوفان بالتشظي والبغضاء، وأنهما يتيحان لخطط التصفية أن تتوغل. فبدل أن تسعى حماس إلى وحدة الشارع السياسي، تندفع إلى ضربه بالهراوات وإلى زيادة الشرذمة في المجتمع، وإلى الممارسات التي أجاد المعلقون الحياديون والمؤرخون الموضوعيون في تعريتها، وذلك علما بأن إسرائيل لن تكتفي لاحقا بالهدنة، فمطلب تسليم السلاح الثقيل وارد، ومصلحة الشعب الفلسطيني في الحفاظ على القدرة العسكرية المتاحة، وبالتالي فإن مصلحة حماس التي تمتلك السلاح الثقيل، كسب محبة الشارع وليس كراهيته، لكي لا يقول الناس في اللحظات العسيرة: وماذا عن السلاح الخفيف، أيضا؟
عدلي صادق
كاتب وسياسي فلسطيني
0 تعليق على موضوع : توجهات متوقعة بشأن حماس وغزة
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات