الحلّ في الجزائر لا في موسكو

المنظومة الحاكمة التي تعتبر أن الأوضاع في الجزائر أوضاع داخلية صرفة لا يُسمح لأي كان بالتدخل في تفاصيلها، قبلت بالتدخل الروسي في الأزمة وسمحت لموسكو بتأييد المبادرة الرئاسية. 

أن تختار الدبلوماسية الجزائرية موسكو لاستهلال جولتها الخارجية لعرض المشهد المحلي على الشركاء الأجانب، يطرح أكثر من تساؤل وقد يخفي أكثر من إجابة.

صحيح أنّ الجولات الدبلوماسية تكشف عن العمق الإستراتيجي وتميط اللثام عن العواصم القريبة والحليفة، ولكن الصحيح أيضا أن العاصمة الأولى في أية جولة تشير إلى بوصلة التوجه الدبلوماسي وإلى التداعيات الكامنة والممكنة أيضا.

وفي هذه الحالة، فإنّ الذي دفع الدبلوماسية الجزائرية إلى اختيار موسكو كمحطة أولى لجولة رمطان لعمامرة، ليس العمق الاقتصادي أو الشراكة الجيوسياسية أو القرب الجغرافي، وإنما استحثاث الدعم من عاصمة إقليمية كبرى، تنظر بالكثير من الريبة والتوجس للثورات الملونة وتضع جزءا معتبرا من بيضها السياسي ضمن سلّة المنظومات المستحكمة في تلك البلدان.

جانبت الدبلوماسية الجزائرية في خطوتها الأخيرة الصواب في أمرين اثنين على الأقل. الأول استعجال الترحيب الدولي بالخطوات الرسمية عبر جولات مكوكية في حين أن الأهم والأولى اليوم متجسد في انكباب كافة الوجوه والجهود على البحث عن حل لأزمة البلاد. أما الثاني فهو البداية بالعاصمة الروسية موسكو والتي يمثل دورها في سوريا خاصة، والمشرق العربي عامة، محل تجاذب وتنافر لدى الرأي العام سواء في الجزائر أو خارجها.

تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف فيها انحياز للمبادرة التي أطلقها بوتفليقة



المفارقة أن المنظومة الحاكمة التي تعتبر أن الأوضاع في الجزائر أوضاع داخلية صرفة لا يُسمح لأي كان بالتدخل في تفاصيلها، قبلت بالتدخل الروسي في الأزمة الجزائرية وسمحت لموسكو بتأييد المبادرة الرئاسية لتأمين الانتقال الديمقراطي.

فالمتابع لتصريحات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف يرى فيها انحيازا للمبادرة التي أطلقها الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، وهي مبادرة لا تحظى بالضرورة بتأييد غالبية الشارع الجزائري، إضافة إلى أنها تجسد موقف أحد أطراف الأزمة.

هكذا تُضيع المنظومة الحاكمة في الجزائر من يدها، أسباب الوئام ومقومات السيادة التوافقية، ففي الوقت الذي تشدد فيه على السيادة والحوار الوطني وعدم التدخل الأجنبي، تأتي بخطوات تقويضية لهذه المبادئ الميثاقيّة.

بهذا المعنى تكون الجولات الدبلوماسية بغرض تسويق التوافق الوطني بعد حصوله، وتصدير النموذج الجزائري في الحوار والتفاهم والتنازل عقب إتمامه، أما التوجه إلى الخارج والجرح المحلي لا يزال مفتوحا والأزمة ما زالت رهينة ما سيفضي إليه حوار الشارع الملتهب والمنظومة الحاكمة المتلعثمة، فإنه ضرب من ضروب مغالبة الداخل بالخارج، وهو ما لا يرتضيه عاقل للجزائر.

حضارية المشهد الجزائري وتمدنه، لا يخفيان تلويح أكثر من مسؤول جزائري بالسيناريوهات السورية والعراقية، آخرها الأخضر الإبراهيمي الذي حذر من إمكانية انفتاح الواقع الجزائري على فرضيات مخيفة، وهو ما يتقاطع مع تصريح لافروف بأنه لا سبيل للتدخل الأجنبي في الأزمة الجزائرية.

جولات مكوكية بهدف استحثاث الدعم من الخارج

لا نعرف إن كان الغرض من هذه التصريحات التخويف لغرض استحثاث الجزائريين على الحوار والتفاهم، أم أنه تشخيص مبني على وقائع أمنية واستخباراتية، ولكن ما نعرفه أن الجزائريين اتعظوا من عشرية الدم واعتبروا جيّدا من عقد الحداد في البلاد، وأنّهم مستعدون للاستلهام من التجربة التونسية أكثر من أي منوال سياسي مغاير.

عدو الجزائريين اليوم هو الوقت، وحليفهم أيضا هو الوقت، فالتراخي عن مطلب انعقاد الندوة الوطنية والبت في الاستحقاقات الكبرى للجمهورية الثانية وتشكيل حكومة توافقية، من شأنه أن يضع البلاد في سيناريو الفراغ، والإسراع في الاستجابة لمتطلبات المرحلة الانتقالية دون استيفائها حقها من النقاش والتوافق، من شأنه أيضا أن يضع الجزائر فوق صفيح ساخن من صراع الغنائم ومكاسرة الشرعيات.

الراهن والرهان يفرضان على لعمامرة لا أن يتنقل بين العواصم بل أن يتجول بين الأحزاب والنقابات والمنظمات الشبابية والمحافظات الجزائرية باعتباره نائبا لرئيس الوزراء أولا وشخصية مؤتمنة على المسار الديمقراطي.

والراهن والرهان أيضا يفرضان عليه الاستماع إلى المعارضين والمؤيدين قصد تأصيل “الديمقراطية التشاورية” أساس الديمقراطية الانتخابية، قبل الاستماع إلى وزراء خارجية عواصم إقليمية تتحرّك بالمصالح وتتحدث بالمآرب، وتستثمر في الدمار أكثر من السلام.


أمين بن مسعود

كاتب ومحلل سياسي تونسي