بقلم : ابراهم غرايبة
كان أبسط تجليات الشبكية، بخاصة في مرحلتها المسماة «الثورة الصناعية الرابعة»، التحوّل من الهرمية إلى الشبكية أو من المركزية إلى اللامركزية، وفي ذلك كانت المجالات المركزية أو «الممركزة» مثل الإعلام والتعليم والدين والثقافة الأكثر تأثراً بالشبكية، وإذا كان الإعلام الأوضح والأسبق في عاصفة التحولات هذه، فإن التعليم يواجه تحديات كبرى لا تقل جذرية وعصفاً من تحديات الإعلام، بل إنه في واقع الحال قد صار عصفاً بالفعل، ولم يبق من نهاياته وتحولاته سوى الاعتراف بذلك، فالمهن والأعمال والأسواق في تحولاتها الكبرى وضعت التعليم والمؤسسات التعليمية القائمة اليوم في مواجهة الجدوى والمعنى، بل الانقراض.
كان ممكناً (ومنطقياً أيضاً) للسلطات والنخب في ظل المركزية التي أتيحت لها، أن تصمم منظومة التعلم والتعليم على نحو يلغي التفكير الناقد والتحليل والإبداع، ويعطل الفلسفة والفنون والآداب ومهارات الحياة والسلوك الاجتماعي، حتى مساقات التفكير الناقد والإبداعي والكتابة الإبداعية والفلسفة والمسرح والفنون والآداب درست على نحو عدائي مع التفكير والإبداع والفلسفة والفنون والآداب.. لأنه وببساطة ووضوح أنشئت المدارس والجامعات لأجل أهداف وغايات مستقلة عن التعليم والتعلم في روايتهما الأصلية والنقية. لكن لغايات تنظيم المواطنين وتنشئتهم وفق أهداف ومصالح النخب المهيمنة، وفي أحسن الأحوال لأجل تمكين الدول والمجتمعات من تنشئة الفاعلين الاجتماعيين وضبطهم، هكذا فإن المدارس في روايتها المنشئة تهدف إلى التنظيم والتنميط الاجتماعي والأخلاقي، والتعليم المدرسي يهدف إلى بناء مهارات واتجاهات تعزز مصالح النخب والأسواق والمجتمعات واحتياجاتها.
والجامعات تطورت تاريخياً وفق مصالح وتطلعات ثلاث فئات مهيمنة (كانت مهيمنة): المؤسسة الدينية، والأسواق والشركات والنقابات التي تحتاج إلى مهنيين وتقنيين، والطبقة الأرستقراطية لتعلّم الآداب والفنون والفلسفة والتاريخ.
وعندما توسعت الجامعات في تعليم الآداب والفنون والفلسفة في عالم العرب، لم يكن ذلك بهدف تكوين فلاسفة وأدباء وفنانين، بدليل أن ذلك لم يحدث كما حدث في قطاع العلوم الطبيعية والتقنية. لكنه توسع مردّه إلى مجاراة اتجاه اجتماعي متغلب في استلهام ومحاكاة وتقليد النخب والطبقات الأرستقراطية، لكن ولأن النخب أصابها التفسخ والإعياء وفقدت قدرتها على الإلهام، وصارت غالباً، بخاصة في عالم العرب، تتشكل حول تشوهات وانهيارات الأسواق والمجتمعات من الشطّار وصائدي الفرص وامتدادات المرابين وجامعي الضرائب ووكلاء الشركات الأجنبية وتابعي النخب المنقرضة، انحطت وبطبيعة الحال دراسات واشتغالات الفلسفة والآداب والفنون والشعر والموسيقى بقدر انحطاط النخب نفسها وتحولاتها.
اليوم، يتّجه التعليم إلى خيارين متناقضين تماماً، الاستجابة والتكيف مع الأعمال والأولويات الجديدة والمستمدة أساساً من الإبداع والمبادرة والمغامرة، ما يعني بالضرورة التضحية بالنخب التعليمية وقادة الأعمال والمهن، والتي تواجه حتمية الانقراض، والخيار الثاني أن تقود النخب في الوقت الضائع مزيداً من عمليات الخوف والفشل. وهو ما يمكن الاستدلال عليه اليوم بتزايد حالات التطرف والشوفينية، وحتى عندما تكون الأمم تبدو قوية ومزدهرة، فإن صعود التطرف المتطرفين فيها وهيمنتهم يؤشران إلى تحديات وضعف لم يظهرا بعد بوضوح، أو إلى نزعة تدمير ذاتي ترافق على نحو كوني طبيعي القوة والازدهار، لأن الشيء ينتج دائماً ضده.
ولا بأس بتكرار القول إن التطرف ليس فقط تطرفاً دينياً، وإن التطرف الديني ليس فقط التطرف الإسلامي، بل إن أنماط التطرف غير الديني القومية أو الاثنية او الطبقية أشدّ فتكاً بالأمم من التطرف الديني. ولا بأس أيضاً بالاستدراك أن الأمة تعني المجموع التفاعلي للمجتمعات والجماعات والأفراد والسلطات في دولة محددة، لقد أصبح ضرورياً اليوم تحرير المصطلح من مفهومه القومي العابر للدول، لأن التكوينات التقليدية من السلطات والمجتمعات والأفراد في ظل الشبكية لم تعد (لن تعود) متماهية ببعضها، بل تتحول (تحولت) إلى كيانات متميزة تحتاج إلى تنظيم جديد لعلاقاتها وشراكاتها في ما بينها، ولأجل التعليم في مرحلته المتشكلة أصبح من الضروري التفكير في بناء شراكات مؤسسية وواضحة بين الأفراد والأسر والمجتمعات والمدن والسلطات المركزية.
* كاتب أردني
0 تعليق على موضوع : التعليم: من التنظيم إلى التشبيك - بقلم : ابراهم غرابة
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات