مع اقتراب خروج الأتراك للتصويت في الانتخابات البرلمانية والرئاسية حملت الأيام الأخيرة أحداثا متسارعة ودرامية تكشف حجم المشاكل وتأثير التقلبات في الأسواق المالية العالمية على الوضع الاقتصاد التركي الهش.
الحدث الأبرز جاء من خارج الحدود وهو رفع أسعار الفائدة الأميركية للمرة الثانية هذا العام لتصل إلى 2 بالمئة، وخاصة بعد البيان الصارم الذي أصدره مجلس الاحتياطي الاتحادي الأميركي وأشار فيه إلى زيادات أخرى هذا العام.
ومن شأن تشديد السياسة النقدية الأميركية أن يزلزل الأسواق الناشئة، وخاصة الاقتصاد التركي الذي يعاني من اختلالات كبيرة سوف تتفاقم حتما حين تتسع موجة هروب الأموال وعودتها إلى الاقتصاد الأميركي.
أما على الصعيد المحلي، فإن نمو الناتج المحلي الإجمالي خلال الربع الأول بنسبة 7.4 بالمئة يؤكد استمرار التسارع المفرط في النشاط الاقتصادي جراء اعتماد سياسات مالية ونقدية فضفاضة للغاية وينذر بعواقب خطيرة.
وبالتوازي مع استمرار النمو بوتيرة سريعة، يتجه معدل التضخم نحو حاجز 15 بالمئة، وتتجه فجوة العجز الكبير في الحساب الجاري للاتساع أكثر فأكثر لتصل إلى 7 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وتكشف بيانات ميزان المدفوعات لشهر أبريل، كيف دفعت الواردات نسبة عجز الحساب الجاري إلى الناتج المحلي الإجمالي لتجعل تركيا حالة شاذة بين اقتصادات الأسواق الناشئة.
مما لا شك فيه أن ارتفاع أسعار النفط لعب دورا في زيادة نسبة عجز الحساب الجاري بما يقارب 1.5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، ومع ذلك يظل الطلب المحلي القوي هو السبب الرئيسي في هذه الزيادة.
وكان للتقلبات في الأسواق المالية العالمية واستمرار النشاط الاقتصادي التركي في التسارع المفرط أثر بالغ في تسميم الأجواء وزعزعة ثقة المستثمرين في الأسواق المحلية.
ومع ذلك يصر كبير مستشاري الرئيس رجب طيب أردوغان على مواصلة الضغط لتسريع النمو الاقتصادي بعد انتخابات الأحد المقبل، والذي سيكون السبب الرئيسي في ضياع مكاسب الليرة من رفع أسعار الفائدة بواقع 5 بالمئة لتصل إلى 17.75 بالمئة.
ولا تزال تصريحات أردوغان في لندن الشهر الماضي حول نيته إحكام قبضته على السياسة النقدية بعد الانتخابات وخفض أسعار الفائدة لتحفيز النمو الاقتصادي، تسيطر على أذهان المستثمرين.
ولم تتمكن محاولات نائب رئيس الوزراء محمد شيمشك ومحافظ البنك المركزي مراد جيتين كايا من تخفيف وطأة تلك التصريحات وتهدئة مخاوف المستثمرين.
شبح تصميم أردوغان على إحكام قبضته على السياسة النقدية بعد الانتخابات لا يزال يثير قلق المستثمرين
وتعطي تصريحات إرتيم الانطباع بأنه مثلما أدت قرارات بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى وضع المزيد من الضغوط على الأسواق الناشئة، فإن تركيا مصرة على العودة إلى انتهاج سياسة اقتصادية “جريئة ومغامرة” في حال فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة.
وتسهم مثل هذه التصريحات في زيادة شعور المستثمرين بالتهديد من التدخلات الحكومية المتنامية، وتؤدي بالتالي إلى عزوفهم عن المخاطرة بالاستثمار في الأسواق التركية.
في المقابل يسعى شيمشك إلى بعث رسالة بشكل متكرر مفادها أن تركيا ستعود إلى انتهاج سياسات اقتصادية أكثر توازنا تستهدف العمل على معالجة التضخم وعجز الحساب الجاري.
كما يصر على أن الحكومة ستقوم كذلك بإطلاق جولة جديدة من الإصلاحات الهيكلية. ومع ذلك، تذكرنا تصريحات إرتيم في كل مرة كيف يبدو حزب العدالة والتنمية منقسما على نفسه بشأن السياسة الاقتصادية التي يجب تبنيها في مرحلة ما بعد الانتخابات.
ورغم أن شيمشك يظهر بشكل متكرر أمام المستثمرين باعتباره “وجه السياسات الاقتصادية التقليدية” لا يوجد دليل ملموس على أنه قادر، سواء الآن أو مستقبلا، على التأثير في خيارات تركيا الاقتصادية بالقدر اللازم. ومن الواضح أنه يقف في مواجهة عدد كبير من الأصوات الزاعقة في الدوائر الحكومية المقربة من أردوغان والتي تؤكد على أن النمو الاقتصادي لا يزال هو الخيار الأول والوحيد للحكومة.
ويتضح ذلك في اتهامه من قبل أردوغان بالخيانة لمجرد أنه تحدث بصوت العقل وأكد أن الاقتصاد التركي ليس في وضع جيد.
لذلك لا عجب في أن تتراجع قيمة الليرة بشكل مستمر مقابل الدولار حتى وصلت إلى مستويات قياسية منخفضة دفعت البنك المركزي لاتخاذ تدابير قاسية بشأن أسعار الفائدة، والذي أدى لارتفاع أسعار الفائدة على القروض المصرفية إلى أكثر من 25 بالمئة، وهو ما يخنق الاقتصاد التركي أكثر فأكثر.
ورغم أن متوسط النمو المتوقع للناتج المحلي الإجمالي في النصف الأول من العام سيصل إلى 6 بالمئة، فإن الوضع سيكون مختلفا تماما في الربع الثالث، حيث من المرجح أن ينكمش الاقتصاد بنسبة تصل إلى 5 بالمئة.
كما ترجح التوقعات أن يصل تضخم أسعار المستهلكين إلى 15 بالمئة مقارنة بنحو 12.2 بالمئة في مايو. وباجتماع تلك الأرقام لانكماش الاقتصاد والتضخم نصل إلى ما يعرف بالركود التضخمي.
ويتطلب الخروج من هذا المأزق المعقد تنفيذ حزمة من السياسات الاقتصادية التصحيحية العاجلة والدقيقة ومن ضمنها إجراءات تعزيز المصداقية واستيعاب الوضع على أرض الواقع بشكل فعلي وبلورة رؤية مستقبلية تعطي الأولوية لإخماد لهيب التضخم.
لا يمكن للوضع أن يحتمل التسويف والتأجيل، بعد أن أطلقت سياسات مجلس الاحتياطي الاتحادي كرة الثلج التي من شأنها أن تجفف الأموال في الأسواق الناشئة، وهو ما سيؤدي إلى استمرار نزيف جروح تركيا الاقتصادية الغائرة دون علاج.
جلدم أتاباي شانلي
كاتبة في موقع أحوال تركية
0 تعليق على موضوع : الانتخابات التركية في متاهة المعضلات الاقتصادية -- جلدم أتاباي شانلي
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات