أي دولة هذه التي تحمي الميليشيات وتغفر لها وتبسط لها جناح الذل والرحمة وتخفف من وطأة جرائمها لأنها تتبع قاعدة حماية "مواطنيها" من رافعي السلاح والرايات الإيرانية والطائفية.
هل هناك فرق بين عملاء الاحتلالين الأميركي والإيراني ومعهما من دخل بقدمه اليمنى إلى مزاد العملية السياسية في المنطقة الخضراء سيئة السمعة في بغداد، وبين أي من أصحاب المهن إن كانوا من أصحاب الشهادات العليا أو الشركات أو من الحرفيين والسماسرة الصغار الذين توغلوا في مقايضة حياة وسلامة الناس بالمال والإثراء السريع بالغش والتزوير.
مقاول يتلاعب بمواد الإنشاء والكهرباء والماء وشيش التسليح والبنى التحتية، ماذا نتوقع لهذا البناء؟ ما هو مصير الأسرة والأطفال أو ساكني البناية؟ صيدلي يتاجر بالأدوية المنتهية الصلاحيات من المنشأ في سوق رائجة بفضائح تزكم الأنوف في مذاخر مشبوهة بالأسرار والصفقات، كيف نتوقع أن تكون صحة الناس؟ قائمة طويلة من اللاثقة في مختلف تفاصيل الحياة، ماذا ننتظر من البسطاء وهم يجاهرون بفقدان لقمة العيش لعوائلهم وأطفالهم واستعدادهم لدفع الرشاوى للمسؤول من أجل راتب شهري يحفظ كرامتهم؟
سقوط الدولة هو انهيار لمنظومة القيم المشتركة التي تعمل كناقلات الأعصاب في الجسد لتمكينه من تنفيذ الأوامر حفاظا على استقراره وأدائه وتوازنه والنأي به عن المخاطر المحدقة به.
دولة بلا رموز إنسانية في الحكم والعدالة والرؤية لن تنتج أو تفقس بيوضها إلا مسوخا ووحوشا في الشارع، يمتدّ أثرها إلى المستقبل لصعوبة السيطرة عليها لأنها تنمو وتتطوّر في مدارس وتقاليد ومؤسسات الفساد العليا، وإلا كيف نفسر حالة الانحطاط في العراق رغم تاريخه واقتصاده وأهمية موقعه الجيوسياسي وثرواته وطاقاته البشرية؟
تقرير إعلامي لأحد المراسلين في الموصل ترافق مع صدمة النجمة السينمائية أنجلينا جولي من حجم الخراب في المدينة العريقة الذي وصفته بالأسوأ من بين ما تعايشت معه كسفيرة للأمم المتحدة. التقرير المذكور أعاد لي بهجة وفرح أحد المراسلين الأجانب في أشهر القنوات الإخبارية حين نقل افتتاح أول محل لبيع الآيس كريم ببغداد بعد أشهر قليلة من الاحتلال الأميركي واعتبره أثرا للحياة الديمقراطية الجديدة في العراق، ظنا منه أن العراقيين لم يتذوقوا طعم الآيس كـريم من قبل بسبب الفقر والحروب والدكتاتورية؛ تقرير الموصل بذات الفرح لكن هذه المرة كان عنوانا للانتصار على الإرهاب المتعدد الذي أحال الحدباء وأم الربيعين إلى مقبرة تصفّر فيها حوادث التاريخ وملفات الدولة الخفية.
كأنما الموصل في بداية التكوين وكذلك بغداد ومدن العراق، ثمة وطن غارق في الظلام ينتظر بداية انبعاث ولو سطر من فجر أو حتى نور مساء سومري أو بابلي تنتصر فيه لغة الحياة على إرادة الإله مردوخ إله السكون والصمت والوجع في أساطير بلاد الرافدين.
أحد أحبتي من أكراد سوريا كتب لي في سنة 2013 من مخيم دوميز قرب مدينة دهوك أثناء زيارة أنجلينا جولي لهم إن اللاجئين كانوا يتشبثون بها بجملة واحدة “نرجو من العالم أن لا ينسانا”. أنجلينا استعارت تلك التغريبة السورية وكل التغريبات الإنسانية لتذكير العالم بعدم نسيان الموصل. أيّة أجيال ستخرّج مدارسُ الأنقاض وجامعاتُ الجثث المترامية في عقول الصغار من أمهات وآباء وإخوة وجيران؟ أية مدرسة ستربي هؤلاء على نعمة النجاة تحت ظل التوحش والإرهاب وجرائم الإهمال والفقر والجوع ومهانة الخوف والإذلال وانعدام الكرامة في مخيمات النازحين وصدقات الطعام من اللئام؟
أي دولة هذه التي تحمي الميليشيات وتغفر لها وتبسط لها جناح الذل والرحمة وتخفف من وطأة جرائمها لأنها تتبع قاعدة حماية “مواطنيها” من رافعي السلاح والرايات الإيرانية والطائفية؛ وما حادثة شارع فلسطين إلا وصف لقاع سطوة الأحزاب الميليشيوية على السلطة والبرلمان والقضاء أيضا، ولا نستثني القوات النظامية من جيش أو قوات الأمن الداخلي، فتحت ظل القوانين تمّ زجّ المنظمات الإرهابية في تلك القوات بذرائع الدمج وحل الفصائل المسلحة وشعارات حصر السلاح بيد الدولة، وهي شعارات حصرية للترويج السياسي والدبلوماسي.
وقائع مماثلة مستمرة ومتصلة باشتباكات بين نقاط تفتيش تعتقد أن لها صلاحيات أمنية بإيقاف العجلات المشبوهة أو التي من دون لوحات تسجيل، ثم تتورط بحسن نية بعض ضباطها وأفرادها بمفاهيم النظام والتعليمات لتتفاجأ بأسرار هيمنة تلك الجهات وتعاليها على ضوابط السير والمرور.
في العام الماضي ذهب أحد ضباط الداخلية ضحية لسوء الفهم عندما أوقف عجلة لميليشيا متنفذة فارق بسببها الحياة، وهو رجل إعلامي وصحافي اكتشف أن مهنته لا تقدّم إلا الجوع لأسرته، وما أكثر الجائعين والعاطلين من فنيين وصحافيين الذين يتوسلون بأي فرصة عمل بعد انقضاء زفة الديمقراطية وهوس الأحزاب حديثة النعمة وقادة “الإعلان” بالصحافة؛ فمن تلك الشجـون نستلهم تخريب المخـرب في العراق.
مدارس الإرهاب لا حصر لها لكنها تمكنت من تحويل شعب العراق إلى مجرد أقلية في خدمة أهداف المشروع الإيراني؛ لذلك تبدو لنا وثائق المعتقلات الأميركية وما جرى فيها بابا مفتوحا تخرجت منه شخصيات وعلاقات ومساومات وبرامج نراها اليوم تستقرّ في الصراعات. ماذا حصل في تلك المعتقلات الأميركية ولماذا رست العطاءات الإيرانية على الثقة التامة ببعض هؤلاء المعتقلين من ميليشياتها، وحازوا على الدعم والإسناد من الحرس الثوري ولماذا تم تكليفهم بمهمات الاختطاف أو إطلاق السراح بعد مفاوضات؟
تظل تلك التساؤلات طي الكتمان لفترة ما، لكنها تحمل في ثناياها أسرار العلاقة بين الاحتلالين الأميركي والإيراني ومنها الانسحاب الأميركي من العراق وتسليمه إلى إيران وتوقيع الاتفاق النووي وخفايا بنوده السرية على عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، مرورا بانفلات الإرهاب واحتلال الموصل في تلك المهزلة في يونيو 2014 حيث التقى الخريجون للاحتفال بتخرج الإرهاب من أكبر جامعات المخابرات والجريمة المنظمة والإبادة والتطهير العرقي في العالم.
حامد الكيلاني
كاتب عراقي
0 تعليق على موضوع : العراق: يد تقتل ويد تحمي الميليشيات - حامد الكيلاني
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات