قيود على فيسبوك
الكثير من مستخدمي فيسبوك يعتقدون أنهم يحصلون على خدمة “مجانية”، وفي الواقع أن المعلومات التي يقدمونها لشركة فيسبوك أصبحت مصدرا لأرباح خيالية!
لسنوات طويلة حلّقت شركة فيسبوك عاليا، وكان النموّ في أعداد مستخدميها هائلا حتى تجاوز ملياري فرد، والزيادة في قيمتها السوقية مستمرة حتى أصبحت ثامن أكبر شركة مسجلة في العالم بقيمة تبلغ نحو 493 مليار دولار. وأصبح لموقع فيسبوك نفوذ واسع في قطاع المعلومات الأميركي بشكل خاص، وفي الاقتصاد الأميركي، الذي يشكّل قطاع المعلومات أحد أعمدته الرئيسية.
وبلغ الأمر أن بدأ البعض يطرح أمكانية ترشح مارك زوكربيرغ، مؤسس ومدير فيسبوك، لانتخابات الرئاسة الأميركية في عام 2020 ليقود الولايات المتحدة كلها بعد أن قاد بنجاح “جمهورية” فيسبوك التي يمتد نفوذها لمختلف بقاع الأرض. غير أن الأزمة الأخيرة التي مرت بها الشركة العملاقة كانت نقطة تحول بارزة في مسيرتها بلا شك.
اتضح أن شركة كامبريدج أنالاتيكا، وهي شركة بريطانية تقوم بإعداد دراسات عن الأسواق لعملائها، تمكّنت من الحصول على بيانات تفصيلية عن مستخدمين لفيسبوك، ثم قامت بتقديم هذه المعلومات إلى القائمين على الحملة الانتخابية لدونالد ترامب، الرئيس الأميركي الحالي، في عام 2016.
بمجرد أن نشرت صحيفتا نيويورك تايمز الأميركية، وأوبزرفر البريطانية تفاصيل هذه الفضيحة، طالبت مجموعة من أعضاء الكونغرس الأميركي بالتحقيق في الأمر، كما فتحت لجنة التجارة الفيدرالية، وهي هيئة رقابية أميركية، تحقيقا في قيام شركة فيسبوك بانتهاك سياسة الخصوصية.
في الواقع هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها الحديث عن استغلال مستخدمي فيسبوك في الحملة الانتخابية لترامب، فقد سبق أن أقرّ المسؤولون في فيسبوك في سبتمبر 2017 بأن شركات ذات صلة بروسيا تمكّنت من الوصول إلى نحو 150 مليون مستخدم لفيسبوك بهدف التأثير على الناخبين أثناء حملة انتخابات الرئاسة الأميركية عن طريق بث أخبار كاذبة على فيسبوك.
ساهم كل هذا في زيادة حدة الانتقادات لفيسبوك في مجالين: الأول: فشلها في الحفاظ على خصوصية معلومات مستخدميها، والثاني، وجود سيل من الأخبار الكاذبة التي تبثّ عبر موقع فيسبوك وتصل للملايين من المستخدمين دون مراجعة، الأمر الذي يثير التساؤلات عن الأسس التي قامت عليها شركة فيسبوك، والطريقة التي تعمل بها، وما إذا يجب السماح باستمرار الشركة بهذه الطريقة، أم يجب فرض قيود عليها.
لم يتوقف الأمر عند جمع المعلومات عن مستخدمي فيسبوك، بل امتد إلى مستخدمي المواقع والتطبيقات التي تمتلكها شركة فيسبوك، مثل موقع إنستغرام، أو تطبيق واتساب، الذي اشترته فيسبوك بمبلغ 22 مليار دولار عام 2012 لكي لا يكون منافسا لها، وأمتد أيضا إلى شبكة الإنترنت بشكل عام بهدف تشكيل أدق صورة ممكنة عن المستخدمين.
ولا شك أن نموذج فيسبوك حقق نجاحا ماليا مذهلا، فقد بلغت عائدات الإعلانات على موقع فيسبوك نحو 40 مليار دولار في عام 2017، وتستحوذ شركتا فيسبوك وغوغل معا على نحو ثلثي عائدات الإعلانات على شبكة الإنترنت في السوق الأميركي الهائل.
والطريف في هذا النموذج أن الكثير من مستخدمي فيسبوك يعتقدون أنهم يحصلون على خدمة “مجانية”، وفي الواقع أن المعلومات التي يقدمونها لشركة فيسبوك أصبحت مصدرا لأرباح خيالية! بل إن ما تمتلكه شركة فيسبوك من معلومات عن المستهلكين في مختلف الدول، ومختلف الفئات العمرية والمالية والاجتماعية، جعلت القيمة السوقية للشركة تتجاوز قيمة أصولها المادية التي تبلغ فقط نحو 14 مليار دولار.
ما تمتلكه شركة فيسبوك من معلومات عن المستهلكين في مختلف الدول، ومختلف الفئات العمرية والمالية والاجتماعية، جعل القيمة السوقية للشركة تتجاوز قيمة أصولها المادية
ونظرا إلى أن السياسيين بدورهم يبحثون عن طريقة للوصول إلى الجماهير، فقد وجدوا ضالتهم في فيسبوك التي تساعدهم في استهداف شرائح معينة تتفق معهم في التوجهات السياسية والمواقف الاجتماعية، ويمكن أن يتم هذا عن طريق الإعلان بشكل قانوني على وقع فيسبوك، دون حاجة لاستخدام بيانات المستخدمين بشكل غير قانوني.
وفي الوقت الحالي لا تمثل الإعلانات السياسية المباشرة سوى نحو 3 بالمئة من عائدات الإعلانات في فيسبوك، لكنها خدمة تطورت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة.
ولكن على الجانب الآخر، من الواضح أن النموذج الحالي لشركة فيسبوك، والذي يضمن لها أرباحا هائلة عن طريق احتكار المعلومات عن الملايين من المستخدمين في مختلف البلاد، يثير رفضا متناميا من جانب أطراف كثيرة، خاصة خارج الولايات المتحدة، ودعوات متصاعدة لفرض قيود على فيسبوك أو تغيير طريقة عملها تماما.
ومن بين الاقتراحات أن يتم التعامل مع شركة فيسبوك بنفس الطريقة التي يتم التعامل بها مع الشركات التي تقدم خدمات عامة، مثل الكهرباء والغاز والاتصالات، وهذا يعني فرض قيود على أرباح الشركة، الأمر الذي قد يؤدي لتراجع هذه الأرباح بنسبة 80 بالمئة حسب تقديرات مجلس الإيكونوميست.
وهناك اقتراح آخر بأن يتم إنشاء هيئة مستقلة للرقابة على أنشطة شركات تكنولوجيا المعلومات، ومنها فيسبوك، وتقوم هذه الهيئة بوضع قواعد للتعامل مع بيانات المستخدمين، ثم التأكد من تطبيقها بشكل سليم، وفرض غرامات ضخمة على المخالفين.
وهناك مقترحات بإلزام فيسبوك بنفس القواعد التي تلتزم بها وكالات الأنباء والصحف للتأكد من صحة الأخبار قبل نشرها، وتوقيع غرامات على الشركة إذا نشرت أخبارا كاذبة أو مضللة.
وبشكل عام يبدو الاتحاد الأوروبي أكثر حماسا لفرض قيود على فيسبوك. وتحركت الدول الأوروبية الكبيرة، مثل ألمانيا، لمنع نشر الأخبار الملفقة على فيسبوك، إذ أصدرت قانونا في أكتوبر 2017 يلزم مواقع التواصل الاجتماعي بحذف أي أخبار كاذبة أو تقارير تحض على العنصرية في مدة لا تتجاوز 24 ساعة وإلا تعرّضت لغرامات ضخمة تصل إلى 50 مليون يورو، وتبعتها فرنسا.
يبدو أن زوكربيرغ لن يستمر طويلا بلا رقابة أو محاسبة حقيقية، ولن تقبل مختلف القوى السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة أن تكون لشركة واحدة كل هذا التأثير. كما لن يقبل الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا، أن يبقى فيسبوك إلى بلا قيود.
0 تعليق على موضوع : قيود على فيسبوك : بقلم: محمود القصاص
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات