احدى ابرز كوارث الوعي القومي، ان العرب، يتحدثون عن القدس، بكل ما تعنيه، ويتناسون كل المدن الفلسطينية من حيفا الى عكا، وصولا الى يافا وبقية المناطق، وكأن رمزية القدس ومكانتها، في مرحلة ما، كان يجري توظيفها في الوعي، للتعمية على بقية فلسطين.
حتى الحديث عن القدس، تراجع الى حد كبير، عند العرب، وبقيت الرمزية، فيما الاطلاع على تفاصيل تغيير هوية المدينة الدينية والثقافية والاجتماعية، وعمليات الهدم الاقتصادي الجارية، بات محدودا للغاية، فالجمهور اليوم يغضب اذا تم اغلاق الاقصى، ويهدأ اذا تم تأمين حق الصلاة، وهذا انتاج خطير لوعي جديد، يخفض القضية الفلسطينية الى مستوى «حق الصلاة» وحسب.
الوعي الذي يعاد انتاجه، اليوم، بشكل بطيء وخطير، يتعلق بقبول غير مباشر، بوجود اسرائيل، وحصر كل المطالبات العاطفية والوطنية، بالقدس، وبدائرة جغرافية اقل، ترتبط بمساحة الحرم القدسي، وهذا الكلام، لا يحمل تخوينا لاحد، لكنه يقال على بساط استثارة الوعي القومي مجددا، حول تساوي المطالبات الوطنية، وعدم التورط في اللعبة الاسرائيلية، التي تريد التنازل تدريجيا عن كل الذاكرة القومية، بما يعني تسليما بالواقع، وتموضعا حول المستجد والحساس دينيا فقط.
اذا كان الاعتراف بأسرائيل، بدأ باتفاقية أوسلو، التي اقرت بثلاثة ارباع فلسطين لليهود، وما سبقها من كامب ديفيد، وما تلاها من اتفاقات اخرى مقبلة على الطريق، وعلاقات سرية وعلنية، فأن المشكلة تكمن في اعادة تشكيل الوعي القومي، وفقا لما يريده الرسميون، ولما يحض عليه العالم، وهكذا تصير رمزية القدس، فعليا، ليس دليلا على اهمية المدينة وحسب، بل وسيلة لنسيان ما تبقى من فلسطين، باعتبار ان ما تبقى هو اسرائيل.
لم تعد هناك دراسات عن مدن البحر الفلسطيني، والجنوب الفلسطيني، ومشاكل الديموغرافيا، وسرقة الارض، والعبث بالهوية العربية والاسلامية، لكل فلسطين، وما يجري من اعادة صياغة للجغرافيا السياسية، ولما تتعرض له الهوية الفلسطينية، ليس باعتبارها هوية فردية، بل بقدر كونها ممثلة للهوية العربية الاسلامية، ولهوية المنطقة، وهذه ايضا احدى كوارث تحويل قضية فلسطين الى قضية فلسطينية، بدلا من كونها قضية اكثر من مليار عربي ومسلم.
اذا سألت كثرة من خارج العالم العربي، عن القدس، فقد تجد بعضهم على صلة بها، ويعرفونها، خصوصا، بين مسلمي ومسيحيي العالم، وقد تجد ايضا وبشكل فاجع، من لا يعرف عنها شيئا ابدا، خصوصا، بين المسلمين غير العرب، لكن الفضيحة الكبرى، تراها حين تحاول استبصار الوعي العربي والاسلامي، حول بقية فلسطين، وكل الملفات الحساسة، ولحظتها عليك ان تعرف ان تغييب كل فلسطين، عن الذاكرة قد نجح الى حد كبير.
ما يراد قوله اليوم، ان للقدس مكانتها الفعلية والرمزية، التي تجعلها في كفة دينية وقومية ووطنية، تعادل كل فلسطين؛ لكن هذا لا يعني احلالها بديلا عن بقية فلسطين، بحيث نتورط دون ان نعرف في مخطط غيبوبة الذاكرة، والسجن في ذاكرة الترميز والرمزية وحسب.
القدس، في فلسطين، لكنها ليست كل فلسطين ايضا، واستثارة الوعي يجب ان لا تخضع لتمييزات واولويات لها غايات اخرى، غير ماتبدو عليه الصورة.
0 تعليق على موضوع : القدس ليست كل فلسطين ماهر ابو طير
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات