الانقسامات في المواقف، وحتى الانشقاقات والتدافعات داخل الأحزاب والحركات والمجموعات والمؤسسات بتكويناتها الأيديولوجية المختلفة ليست شراً مستطيراً دوماً وعلى طول الخط، والقول إياه ليس دعوة إلى إحداث انشقاقات أو تشجيعها، فعمليات التناسل والانشقاق ليست صفة حميدة دوماً، ولا تحمل الجديد دائماً، وربما جرى بعضها على خلفيات خارجية، لكنها في حالات منها تمثل روافع لإحداث التطوير الداخلي والاشتقاقات العملية لبرامج وعمل الحركات والأحزاب في السياسة والممارسة والعلاقة مع الناس في ظل جمود غالبية الأحزاب وتقوقعها وتكلسها ومراوحتها عند حدود معينة في حياتها الداخلية وعلاقاتها الخارجية.
وللأسف، فإن أغلب الأحزاب المنتشرة على مساحة الخريطة العربية بتلاوينها الأيديولوجية تحمل داخلها بذور الانشقاق، ويزداد هذا الاحتمال قوة وحضوراً عندما يسود الاستبداد شرايين حياتها وسيرتها، ويطبع آليات اتخاذ القرار فيها، على يد قيادة تجعل من الحزب إمارة محكمة الإغلاق، يجتمع فيها الناس حول شخص واحد، يأمرهم وينهاهم بما يشاء وبما يجب، وليس لهم إلا أن يسمعوا ويطيعوا ويلتزموا بأمره، عبر سنوات من التسيير الفردي، والهيمنة الشخصية على يده ومعه مجموعة ضيقة لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، في أسلوب إدارة الحزب أو التنظيم أو الإطار السياسي وتوجيهه، وفي رسم واشتقاق سياساته، مما يحفز نمو بذور التحول وانتعاشها داخله في اتجاهين: إما اتجاه التطور الداخلي في التنظيم ذاته استجابة لمطالب داخلية ملحة، وإما السير في اتجاه خيارات الانشقاق والتناسل، على يد المجموعات التي تطور موقفها تدريجياً إلى شكل من أشكال الرفض أو المواجهة أو الانسحاب والانكفاء في أحسن الأحوال.
وفي حالات قد تتغلب تنظيمات على ظاهرة التفكك بتفعيل التعايش بين الآراء المتباينة، وتوفير هوامش حركة لوجهات النظر المختلفة، والاحتكام في سيرها ومواقفها إلى مبادئ ثابتة وواضحة تصعب مناهضتها ويصعب الخروج عليها، لكن يبقى المدى محدوداً ليحفظ هذه الأحزاب بالحصانة التي تصونها من الصراعات الداخلية التي تتطور إلى انشقاقات.
الاختلافات والتباينات في حياة الأحزاب السياسية واقع معيش، وهو إفراز طبيعي للتباين في تقدير المصالح، وقراءة الواقع، واستخلاص النتائج، وتصور الحلول المناسبة للمشكلات المطروحة، هذا مع افتراض أن الاختلافات يجب ألا تتطور إلى خلافات حادة ومن ثم إلى صراعات مريرة تفرق الصف وتشتت القوى، وتزرع الفتنة، وتلقي الإحباط في النفوس.
أما في الساحة الفلسطينية بخصوصياتها المعلومة، فقد ضاع ما كان يصف نفسه باليسار في حومة الأحداث اليومية، مؤكداً أن ذهنيات سياسية تتشابه بين التيارات السياسية المختلفة، فيما يمكن أن تفترق داخل التيار السياسي الواحد بين فصائله وحركاته، وهو الحال بين الشيوعيين وفصائل اليسار الجديد، إضافة إلى ما هو ملاحظ بين البعثيين والناصريين. وفي أواخر الستينات وفي النصف الأول من السبعينات، حصلت انتقالات عدة، إثر كارثة حزيران
(يونيو) 1967 لحركات بمجملها (حركة القوميين العرب) من الفكر القومي إلى الماركسي، فيما حصل ذلك على مستوى فردي من البعث، ويلحظ، في هذا الإطار، أن الأفراد الآتين من عند القوميين، والذين دخلوا إلى صفوف الشيوعيين، قد ظلوا غرباء في تلك الصفوف، عبر احتفاظهم بذهنيتهم القديمة وطريقتهم في العمل السياسي والتنظيمي.
وقد اختلف الإسلاميون واليساريون والقوميون في ما بينهم واختلفوا في داخلهم، فأنشأوا أحزاباً وإطارات، واختلف كل حزب جديد بمن فيه، فحدث الانشطار والتفكك، لتبدو الأمور كأن الانشقاقات التي تتحول إلى تشرذم ليست سوى تعبيرٍ فجٍّ عن الثمن القاسي لممارسة السياسة بلا ضوابط، حتى عندما بدأ بعض الكوادر والصف المتوسط من اليسار مثلاً في استعمال مفاهيم جديدة مطلع التسعينات، عكست دلالات تضمر إحساساً بخطورة التغير التاريخي الذي أصابها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق في تلك اللحظة الانتقالية، فطوى مفهوم (اليسار) رغبة غامضة في تجاوز الخلافات الحزبية القديمة بين الأحزاب اليسارية، لكن أياً من تجمعات (اليساريين) السالفين لم يكن قادراً على ادعاء تصور خطوط برنامج المستقبل، مع أن قسطاً من ذاك الغموض كان حميداً بالفعل، فقد نشب الجدل الفكري/ السياسي في أوجه الرؤية بما فيها المحظورات الصنمية المعروفة، وانتقل كوادر من تلك الأحزاب في التفكير باجتراح حلول نظرية لأزمات سياسية وفكرية لاهبة. بل صاروا يفتشون عن القواسم المشتركة مع الإسلامية في الساحة الفلسطينية مثلاً، بينما تحجر بعضهم في الساحة ذاتها وتحولوا الى أبواق داخل المجالس.
في تلك العتمة أيضاً، نودي بأولوية الروابط القومية العربية ضد مشاريع الشرق أوسطية والمتوسطية، وظهر التزام واسع برفض التطبيع مع إسرائيل، ودعم الانتفاضة الفلسطينية. بينما ما زال يجلس ويتربع في مكانهم وعلى وسائد القيادة محنطو الحركات والأحزاب، بخاصة التي أمضت ردحاً من الزمن وفشلت في الاستجابة للتحديات الواقعة عليها، ومن دون أن يفتحوا النوافذ والأبواب للدماء المخلصة المعطاءة، بينما أغلقوها في وجه حملة الإرادة ورافعي راية التغيير الحقيقي، وبالتالي فإن القوى المشار إليها ومن تلاوينها كافة باتت منذ زمن طويل بيئة طاردة للكفاءات وللمبدعين والمفكرين.
إن سمة التناسل والانشقاق، باتت تميز عموم الأحزاب العربية المختلفة التوجهات والبنى الفكرية، خصوصاً منها الأحزاب التاريخية، وبالتحديد أحزاب التيارات اليسارية والقومية وبعدها الإسلامية. وقد يفضي النزيف الذي يصيبها ويصيب الكيانات السياسية في النهاية إلى موتها إذا لم تبادر إلى وقفه، عبر المراجعة النقدية الجريئة والشجاعة، خصوصاً أن النزيف يبدأ عادة في قلب هرم التنظيم أو الحزب أو التكوين السياسي أو المؤسسة، وتحديداً في صف الأعضاء المتمرسين بالعمل وبميدان التجربة، لينتشر في المستويات كافة. وعليه، لقد فقدت الأحزاب العربية القومية واليسارية والإسلامية على حد سواء كثيراً من كوادرها وهيئاتها وعناصرها الفاعلة، وتحولت إلى بؤرة صراع ومواجهة بين تيارات اختلفت وجهاتها، وفقدت الصبر والقدرة على التعايش، فحكم بعضها على بعض بـ «التكفير والتكفير» المضاد بثنائية الجنة أو النار وفي أحسن الأحوال حكم بعضها على الآخر بنعت مخطئ أو على ضلال (يستوي في ذلك أصحاب الماركسية مع غيرهم)، وتصرفت على هذا الأساس، لتطفو على السطح دفعة واحدة اتهامات واتهامات مضادة من العيار الثقيل.
* كاتب فلسطيني
0 تعليق على موضوع : مآلات اليسار الفلسطيني بين التكفير والتفكير - بقلم :غلي بدوان
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات