خالد فتحي
الاثنين 26 غشت 2019 - 15:14
من نافلة الانتقادات التي تصوب إلى الأحزاب المغربية تحولها من جاذبة للأطر إلى منفرة وطاردة لها، إلى درجة أن بعضها أقفر وأجدب من هذه الشتائل المنبتة للأفكار والرؤى والإستراتيجيات التي تنتقل خصوبتها إلى الدولة من خلال الانتخابات، فتغير حياة المجتمع إلى الأفضل.
وقد تدهور الوضع إلى أن صار بعضها ليس فقط تجمعا حصريا خاصا بالأعيان، وإنما تعقد إلى درجة أن منها من أصبح بركا آسنة بالانتفاعيين وضحيلي المعرفة والتكوين الذين يعبرون عن قوة الجهل والانتهازية والضحالة والشعبوية التي عادت تسري في أوصال المجتمع. والأدهى هو أن العطب وصل إلى القيادات والمكاتب السياسية، مترافقا بطبيعة الحال مع هجر المثقف لها أو تهجيره عنها عنوة أحيانا وديمقراطيا أحيانا أخرى؛ وهو ما يهددنا بأوخم العواقب على الديمقراطية والحياة السياسية.
وقد نتساءل: لم وصلنا إلى هذا الدرك الأسفل من السياسة؟ وهل كان بالإمكان تحاشي هكذا ظاهرة؟ أم أن هذا تطور طبيعي لتحولات النضال الحزبي الذي يواجه بدوره إكراهات السوق والعولمة وثقافة الاستهلاك والفاست فود وتنمر التطور التكنولوجي وملاءمته أكثر للتافهين، وكذا ظهور تعبيرات سياسية جديدة نتيجة ذلك تستقل وسائل غير تقليدية عجزت الأحزاب عن تذليلها لكسب رهان إغراء الأطر والمثقفين؟
المؤكد هو أن هناك عوامل متضافرة صحرت الأحزاب من المثقفين؛ منها العام، وكذلك الخاص اللصيق بالحالة المغربية. ويمكن أن نختزلهما دون ترتيب فيما يلي:
1/ تراجع الإيديولوجيات الكبرى، من اشتراكية أو شيوعية، نتيجة توحش رأس المال الذي جعل الأحزاب اليسارية التي كانت مأوى للمثقفين وكانت حاملة للفكر النقدي تتخلى عن مزاجها التنويري الجاذب للطبقة المثقفة لتطفر في اتجاه ليبرالي أو إداري دون نكهة أو مذاق.
2/ حصول هذا التراجع لفائدة أحزاب الأصولية الإسلامية التي تنظر إلى الخلف، وتقف عند مرحلة من التاريخ تظن أنها كل التاريخ معتمدة على التقليد والتراث عوض إطلاق القدرات الخلاقة للمثقف بداخلها ناهيك عن تحريرها لدى التابعين. ثم انتخابها الأطر على أساس معيار الإيمان (الظاهري طبعا) عوض المعيار الثقافي.
نتج عن هذا الانتعاش الأصولي وسيطرته المحكمة على المدن والحواضر توجه الأحزاب غير الأصولية، ليبرالية أو وطنية أو اشتراكية، إلى قنص الأعيان الذين يستقوون بالمال لمواجهة هؤلاء الأعيان الجدد الذين يستقطبون عوضا عن المال بالدين، فتضاءلت لأبعد الحدود الحاجة إلى المثقف لدى الطرفين.
3/ ثم كان لوسائل التواصل الاجتماعي أن فتحت مضمار السياسة على مصراعيه ليدخله الغث والسمين، ليجري الاثنان وراء الليكات، ويبدؤوا في اعتمادها معيارا للثقل والتأثير السياسي؛ وهو ما أدى إلى صعود الشعبوية والتفاهة والبذاءة كخصال جديدة ضرورية للسياسي الذي يريد أن يكون (ناجحا) في هذه المنظومة المنتكسة. ثم كان أن تسبب انحدار عدد من المثقفين لمجاراة هذا المد الضحل في فقدانهم صفة المثقف والالتزام من الأساس بأن صاروا مدجنين لا يطرحون الأسئلة المقلقة المزعجة فلا يسعفون إلا في التأثيث.
بجانب هؤلاء المثقفين المتحولين، يوجد المثقفون الذين ظلوا يترفعون عن أوحال السياسة مستوثقين متحصنين بأبراجهم العاجية مكتفين بذواتهم لا يهمهم من ضل بعد أن اهتدوا هم، ثم فصيلة المثقفين الذين لدغتهم السياسة، فلم يستطيعوا معها صبرا، فأحبطوا، وذهبوا إلى حال سبيلهم يتجرعون يأسهم تاركين البلاد للغوغاء والعامة وأنصاف وأرباع وأعشار المثقفين.
لقد أدى طول غياب الثقافة في الحياة الداخلية للأحزاب إلى أن استأنست بالجهل والأمية المقنعة والعلم الذي لا ينفع واكتفت بالبلغاء والفصحاء الذين لا ينطوون على معرفة حقيقية، فكان أن صارت تتأفف من المثقفين الحقيقيين وتتحاشاهم في أجهزتها التقريرية، لتتخلى بذلك عن وظائفها الكلاسيكية كالتأطير والتنشئة السياسية والبحث الإيديولوجي وما يرتبط بها من أنشطة وفعاليات كان يشرف عليها وتقوم بها هذه الطبقة العالمة. هذا التراجع لهذه الأنشطة الفكرية قلص وظائف المفكرين والمثقفين الحزبيين ومكانتهم داخل هيئاتهم لصالح فئات أخرى ازدهرت أنشطتها وأدوارها كأعيان الانتخابات ومن يدور في فلكهم من أصحاب البهرجة والبلطجة.
وحتى وإن وقع وتعطفت هذه الأحزاب على ما بقي من مثقفيها، جمعتهم في صالونات للترف الفكري تهربها غالبا خارج المقرات، لكي (لا يؤذي) منظرهم الأعيان، وليؤدوا وظيفة منبرية أو دورا تجميليا لا يخلخل لديها بنية الكسل الفكرية والانتهازية، خصوصا أن الساكنة الحالية أو المتنفذة بداخل هذه الأحزاب تعتقد أنها لم تعد بحاجة إلى الأفكار، فليس ذلك ما ينقص هذا العالم الذي أصبح يهتم بالسلع المادية أكثر من اهتمامه بالسلع المعنوية.
ولكن، وأخيرا، هل نحن فعلا في مسيس الحاجة إلى أن تستعيد الأحزاب المفكرين والمنظرين إلى صفوفها؟ أم أننا نعيش مرحلة تفكيكية للعمل الحزبي تترك العمل التنظيمي داخل الأحزاب للأعيان وللجمهور العادي غير الموهوب، وتحيل التفكير الإستراتيجي على العقول وأصحاب الفكر في مؤسسات لا حزبية على أن يكون هناك ما يشبه المناولة بين الجانبين لينفذ السياسي أفكار المثقف الذي لا ينتمي إليه؟. هذا سؤال عميق قد نعود إلى الإجابة عنه يوما ما.
0 تعليق على موضوع : الأحزاب الطاردة للأطر
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات