ما يجري من أحداث في فلسطين وخصوصا في قطاع غزة يتجاوز الخلافات الفصائلية وأزمة المصالحة وتشكيل الحكومة ويتجاوز الحصار وتداعياته كأزمة تردي الأوضاع الإنسانية في القطاع وقمع حركة حماس المُبالَغ فيه للحراك الشعبي الذي خرج في قطاع غزة تحت عنوان "بدنا نعيش"، كما يتجاوز مجرد هدنة يختلفون على تفاصيلها، فوراء كل ذلك يجري بالخفاء تمرير صفقة القرن وتغيير في الجغرافيا السياسية وفي طبيعة الصراع ورسم حدود دم جديدة لإسرائيل ولدول مجاورة.
عبر تاريخ فلسطين الحديث ومنذ ظهور المشروع الصهيوني الهادف لإقامة دولة يهودية على ما يسمى أرض التوراة، ولأن إسرائيل حتى اليوم لم تعلن عن حدودها رسميا وقانونيا، فإن كل حروب إسرائيل كانت توسعية وعدوانية ولها علاقة بالحدود، وستبقى الحدود حدود دم، وستستمر حدود فلسطين وإسرائيل بل وحدود دول الجوار غير مستقرة وخاضعة لموازين القوى المحلية والإقليمية والدولية وما يتم تخطيطه للمنطقة.
فمنذ البدايات، ما كان لوعد بلفور 1917 أن يكون لولا الحرب العالمية الأولى وانتصار بريطانيا، ولو لم تنتصر بريطانيا في الحرب ما قامت دولة إسرائيل، فأثناء هذه الحرب تم ترسيم حدود فلسطين الانتدابية جزئيا في سايكس –بيكو عام 1916 ونهائيا في اتفاقية بوليه – كومب بين البريطانيين والفرنسيين عام 1923 حيث رُسمت حدود فلسطين مع مصر والأردن، واستمرت الحدود مع لبنان وسوريا موضع خلاف حتى الآن.
وبعد الرفض العربي للقرار الأممي عام 1947 بتقسيم فلسطين تم وضع حدود الدم مجددا في اتفاق الهدنة عام 49 وذلك على إثر الحرب المهزلة عام 1948 ما بين سبعة جيوش عربية والحركة الصهيونية، حرب أشرفت عليها وتم تحديد الأدوار فيها من طرف بريطانيا العظمى، وهي حرب أدت لقيام إسرائيل على حوالي 78% من مساحة فلسطين فيما ضمت الأردن الضفة الغربية وتم وضع قطاع غزة تحت إمرة حاكم عسكري مصري. هذا التأسيس العملي لدولة إسرائيل ما كان يحدث لولا الحرب العربية الإسرائيلية وقبلها انتصار بريطانيا والحلفاء على دول المحور في الحرب العالمية الثانية 1939 -1945 ولو كانت نتيجة الحرب معكوسة ما قامت دولة إسرائيل.
ومرة أخرى ومع حرب 1967 تغيرت الحدود حيث أدت الحرب لتوسيع حدود إسرائيل لتضم ثلاثة أضعاف ما كان بيدها من ارض بعد حرب 1948 – الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وسيناء.
بعد حرب اكتوبر 1973 والتي سبقتها حرب استنزاف دامية تغيرت الحدود نسبيا، مع مصر عندما تم توقيع اتفاقية كامب ديفيد 1978 التي أدت لانسحاب إسرائيلي مشروط من سيناء عام 1982، وتغيير نسبي للحدود مع سوريا على جبهة الجولان التي ما زالت حدود دم. ولم يكن حال الحدود مع لبنان أفضل حالا سواء من خلال المواجهات بين إسرائيل وحزب الله، و قبل ذلك بين إسرائيل وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية وحلفائها من القوى التقدمية اللبنانية.
ما بعد انتفاضة الأقصى واجتياح الضفة الغربية 2002 وضعت إسرائيل مخططا لحدود مفترضَة من خلال بناء جدار الفصل الذي تم إدانته دوليا من خلال حكم محكمة العدل الدولية في يوليو 2004 ومواجهته فلسطينيا، ومع ذلك لم تلتزم إسرائيل ذاتها بهذه الحدود المفترضة وتمددت إلى ما وراء الجدار ثم أعادت احتلال كامل الضفة الغربية.
مع تواصل الانتفاضة والمواجهات الدموية في الضفة وغزة وفلسطين 48 أقدمت إسرائيل خريف 2005 على تنفيذ مخطط كان مُعد مسبقا وهو الانفصال من طرف واحد عن قطاع غزة، وما بعد خروج الجيش الإسرائيلي من داخل القطاع استمرت الحدود حدود دم حيث المواجهات الدامية لم تتوقف وكلها صبت في طاحونة تكريس الفصل والانقسام، هذا إن لم يكن هدفها الاستراتيجي تحقيق ذلك، كما أصبحت ملتبسة حدود قطاع غزة مع إسرائيل ومصر، وما إن كانت حدود دولة مع دولة، كذا الأمر بالنسبة لعلاقة قطاع غزة مع السلطة الفلسطينية، وزاد الأمر التباسا مع سيطرة حركة حماس على القطاع بانقلاب يونيو 2007 واستمرارها في حكمه حتى الآن.
ولأن إسرائيل لم تُرسِم حدودها النهائية حتى اليوم، حيث ترى أنها ما زالت في مرحلة حرب تحرير حتى تستكمل حدود دولتها التوراتية المبهمة والمزعزمة، فإن الحدود ستبقى حدود دم، وما يجري اليوم سواء مع القدس وإعلانها عاصمة لإسرائيل وفي الضفة من خلال الاستيطان المتواصل وفي قطاع غزة فيما يخص الهدنة يندرج في هذا السياق.
وبالعودة للبدء، فإن ما يجري في قطاع غزة وعلى حدودها منذ خطة شارون للانفصال من طرف واحد 2005 من سيطرة حماس على القطاع وحصار وحروب وهدنات متقطعة والإفشال المقصود للمصالحة كلها تندرج في مخطط إعادة رسم حدود دولة إسرائيل في الجبهة الجنوبية مما يسمح لها بالتخلص نهائيا من قطاع غزة.
ما هو أخطر من ذلك وفي حالة رفض القيادة الفلسطينية لصفقة القرن، وفي حالة تأكيد أن الصفقة تتضمن أن يكون قطاع غزة بحدوده الحالية أو الموسعة تجاه سيناء هو الدولة الفلسطينية الموعودة، أن يتم تمرير الصفقة وترسيم الحدود من خلال حرب تشنها إسرائيل على القطاع وقد يستدعي الأمر حربا أهلية فلسطينية.
خلال هذه الحرب سيتم تصفية السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة أو تجريدها من دورها الوطني لتصبح مجرد روابط قرى أو سلطات محلية لتجمعات فلسطينية، ونقل مركز السلطة إلى قطاع غزة وإنهاء الدور الوظيفي لحركة حماس .وربما يتطور الأمر إلى حرب أشمل تمتد للجبهة الشمالية والشرقية، آنذاك سنكون أمام مشروع أو مخطط "حدود الدم" الذي تحدث عنه الكولونيل الأميركي المتقاعد رالف بيترز في دراسته في "مجلة القوات المسلحة الأميركية" عام 2006 والتي كُتِبت في تزامن مع ظهور مخطط الشرق الأوسط الجديد و"الفوضى البناءة" بالمفهوم الأميركي، وهي حدود تتبلور ببطء في دول فوضى الربيع العربي.
وأخيرا، ما دامت إسرائيل محكومة باليمين المتطرف ومدعومة بإدارة أميركية أكثر تطرفا، ولأن الشعب الفلسطيني لن يستسلم أو يفرط بحقوقه المشروعة، فإن حروب حدود الدم آتية لا محالة، وسيكون وقعها أكثر خطورة ودمارا على قطاع غزة وخصوصا إن صحبتها فتنة قد تكون أسوأ من الحرب.
مقالات سابقة
تصعيد عسكري وهدنة مثيرة للفتنة
التطبيع وتغيير طبيعة الصراع وأطرافه
فلسطين والفلسطينيون الأصل وغيرهم طارئون
الافتئات على المشروع الوطني ومنظمة التحرير
"القضية الغزاوية" تستبدل القضية الفلسطينيةد. إبراهيم أبراش
مقالات ذات صلة
إنهم ينفخون في دمية الخليفة البغدادي
السبت 2019/03/23
لا.. ليس ذئباً منفرداً
الجمعة 2019/03/22
ايران واتفاق الجزائر
الجمعة 2019/03/22
0 تعليق على موضوع : حدود الدم في فلسطين // حرب الفتنة في غزة قادمة.
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات