قمة تونس لن تختلف عن القمم التي جرت خلال السنوات الماضية، وقد تكون الدولة المضيفة حريصة على خروجها لبر الأمان بأقل خسائر ممكنة، وليس بحثا عن المكاسب العربية الممكنة.
الاثنين 2019/03/11السفير أبوالغيط يدافع عن الجامعة كصرح عربي مهم
القمة العربية المنتظر انعقادها في تونس قبل نهاية مارس الجاري، ستعيد قدرا من الزخم المعنوي للجامعة العربية، غير أنها لن تعيد العافية المادية لهذه المؤسسة، لأن القمم التي عُقدت السنوات الماضية تحولت إلى لقاءات روتينية، يتجنب حضورها العديد من القادة والزعماء، لعدم جدواها على الأرض، والابتعاد عن الدخول في تراشقات جديدة، بعد أن أصبحت الاجتماعات ساحة لتصفية الحسابات في بعض القضايا، والتعبير عن توازنات القوى بين جدران الجامعة.
قمة تونس لن تختلف عن القمم التي جرت خلال السنوات الماضية، وقد تكون الدولة المضيفة حريصة على خروجها لبر الأمان بأقل خسائر ممكنة، وليس بحثا عن المكاسب العربية الممكنة، لأن الأجواء التي تحيط بها مشابهة تقريبا لسابقاتها، فمن غير المتوقع أن تتطرق لجوهر المشكلات والصراعات والنزاعات، ويرجح أن تكتفي بتكرار المواقف المعلنة والمتفق على الحد الأدنى منها، لكن هل هذه النتيجة كافية لاستمرار صرح في حجم الجامعة العربية؟
الجدل يتردد قبل كل قمة عن فائدة الجامعة وأهميتها في حل القضايا العربية، وتنسيق المواقف في الملفات المصيرية، وحتى القضية الفلسطينية التي كانت محل توافق نسبي عام لحقت بها الخلافات مؤخرا، وتجذرت توجهات مع وضد التسوية السياسية وصورتها المطلوبة، ليس حبا أو غضبا مما هو مطروح للحل، لكن بسبب الظلال التي أرختها المسافات السياسية المتباعدة على حزمة من القضايا العامة، وما اصطحبته من مستجدات وأزمات.
اللقاءات التي جمعتني مع أحمد أبوالغيط الأمين العام للجامعة العربية في الأسابيع الماضية، أكدت أن الرجل لا يزال متفائلا بالمؤسسة التي يتولى رئاستها، ويرى أن هناك ضرورة لاستمرارها، ويرد على من ينتقدون تراجع دورها بأنها حاصل جمع قوة الدول العربية، وإذا كانت الغالبية ضعيفة ولديها مشكلات مركبة فمن الطبيعي أن تعاني الجامعة، وتتعثر في اتخاذ مواقف حاسمة ترفعها إلى المستوى الذي تنتظره الشعوب.
إغلاق أبواب الجامعة العربية تماما هو حل غير مرغوب فيه لدى معظم الأعضاء، لأنهم لا يملكون البديل الجاهز، ودرجت قيادات بعض الدول على الاستفادة من المؤسسة المترهلة في خدمة أغراض سياسية محددة
السفير أبوالغيط يلجأ أحيانا للحديث بدبلوماسية عندما يجد صعوبة في التعبير مباشرة عن حالة العجز التي تعاني منها الجامعة العربية، لكنه لا ينكر أن ثمة ضغوطا وعرة من داخلها وخارجها تحول دون مواصلة هذه المؤسسة العريقة لدورها بدرجة عالية من الحيوية السياسية، ويتمنى دوما تجاوز التعقيدات التي تحول دون ذلك.
أبوالغيط يدافع عن الجامعة كصرح عربي مهم، حتى لو كان دور هذا الصرح غير ملموس لكثيرين، ووجد في القمة العربية- الأوروبية التي عُقدت في شرم الشيخ الشهر الماضي طوق نجاة ضد من درجوا على توجيه انتقادات حادة لهذه المؤسسة، لأنها نجحت في مخاطبة الاتحاد الأوروبي ووصلت إلى الصيغة التي أفضت إلى قمة يرى فيها مستقبلا واعدا، وتحمل إشارة إيجابية حول الآلية التي تملكها، وإذا تم توظيفها جيدا يمكن أن تحقق فوائد جماعية.
قد يكون أبوالغيط وضع يده على بعض الجراح وقدم رسالة معنوية، تمنح من في مثل منصبه دورا رمزيا، لكن لن يتم إعفاؤه من مسؤولية العمل على تنشيط هذا الدور وتوسيع نطاقه وجني مكاسب، بما يمنح الجامعة أهمية كمؤسسة تنضوي تحت مظلتها الدول العربية، لأن الضجيج السياسي الذي يحدث في الغرف المغلقة ويجيده بعض الزعماء لن يكفي لجعلها قوة مؤثرة في التفاعلات الإقليمية.
القمم واللقاءات الوزارية التي تعقدها الجامعة، داخلها أو مع كيانات أخرى، تتراوح بين السياسة والاقتصاد والأمن وغيرها من المجالات الصاعدة في العلاقات الدولية، ولن تؤدي إلى ضخ الدماء في عروقها، فهذه المسألة تحتاج لمبادرات خلاقة وترتيبات وخطوات تتكيف مع المعطيات الراهنة في العالم، بكل ما تحمله من تطورات في المفاهيم والتحركات وطرق التعامل بمرونة مع المفاجآت الصادمة.
التباين الحاصل بين من مع الجامعة العربية ومن هو ضدها خفتت حدته مؤخرا، ولم تعد الدول والأشخاص والدوائر العربية معنية بغلق أو إصلاح هذه المؤسسة، وكأن الجميع أصبح مرتاحا للحالة التي وصلت إليها (موجودة وغير موجودة في آن واحد)، ولقي هؤلاء في الصيغة الخاملة التي وصلت إليها ملاذا ضمنيا يعفيهم من المسؤولية السياسية، لعدم قدرتهم على التطوير أو الهدم.
التطوير يتطلب إرادة قوية ورغبة في تبني طروحات تؤدي إلى الغاية المنشودة، وفي نموذج الجامعة من المفترض أن تكون على قدر التحديات التي تتعرض لها دولها، فرادى وجماعات، الأمر الذي يصعب الوصول إليه مع زيادة هوة الخلافات، والعجز الذي أصاب غالبية الهياكل، وجعل البعض يراها منتدى سياسيا يجتمع على مضض مرة واحدة كل عام، ولن يحدث ضررا من عدم الاجتماع أصلا.
الدول التي طالبت بالتطوير والإصلاح، بصرف النظر عن أهدافها، لم تعد تجرؤ على النطق بذلك، وكأن اليأس أصابها وعجزت عن الحصول على استجابة واسعة لصيحاتها، كما أن تبني هذا النوع من الأفكار أوقعها في خلاف مع دول تريد المحافظة على هذا الكيان في صورته السائلة، أي لا هو مؤسسة تقوم بدورها كما يجب، ولا ينهار بما يضع على عاتق الأعضاء أعباء سياسية مضنية.
إغلاق أبواب الجامعة العربية تماما هو حل غير مرغوب فيه لدى معظم الأعضاء، لأنهم لا يملكون البديل الجاهز، ودرجت قيادات بعض الدول على الاستفادة من المؤسسة المترهلة في خدمة أغراض سياسية محددة، فقد تحولت إلى أداة معنوية للمعاقبة والمجاملة عند صدور بعض القرارات الموجهة إلى أعضاء أو خصوم.
ضغوط وعرة من داخل الجامعة العربية وخارجها تحول دون مواصلة هذه المؤسسة العريقة
الهدم أيضا يفتح المجال أمام تخلي بعض الدول عن التزاماتها الرمزية، ويقدم لها مبررات كافية للتحالف مع قوى إقليمية غير عربية، ويؤدي إلى تكوين تكتلات مختلفة، تعيد ظلال ما حدث في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، عندما تم تأسيس مجلس التعاون الخليجي ومجلس التعاون العربي والاتحاد المغاربي، وبعدها مشروع دول إعلان دمشق، ولم يصمد سوى الأول لخصوصيته المعروفة، وحتى هذا الكيان بدأ يتأثر عقب نشوب أزمة مع قطر، جراء تبني توجهات تتعارض مع مصالح دول رئيسية في المجلس الخليجي.
الخط العام الواهن والذي تسير فيه الجامعة العربية صمد أمام الكثير من الرياح السياسية والأمنية التي هبت الفترة الماضية، لكنه مستبعد أن يصمد طويلا مع زيادة التشققات بين الدول العربية وتراجع أهمية المصالح المشتركة، في مقابل تعاظمها مع دول غير عربية، ولذلك قد تعود نداءات الإصلاح والهدم مرة أخرى بطريقة أكثر شراسة.
الحالة التي تخيم على مؤسسة الجامعة العربية وجعلت البعض يقبل بها على مضض لن تدوم مع تنامي التحديات التي تواجهها المنطقة، بعد أن حولها العجز في التعامل مع الأزمات إلى عقبة أمام من يمتلكون خططا في التعاطي مع المشكلات الإقليمية، لأن استمرار الانسداد سوف يصبح عائقا عند من يريدون التأقلم مع التطورات الجارية في العالم.
لن يتبقى من الجامعة سوى ذكريات مريرة، وكانت الاجتماعات التي تعقد في مدن عربية مختلفة شاهدة على حجم الغضب الذي يعتمل في النفوس، بما تطلب بذل جهود مضاعفة لتحجيمه، وحصد أولوية تفوق ما حصده الاهتمام بالقضايا التي لها علاقة مباشرة بالأمن القومي العربي.
محمد أبوالفضل
كاتب مصري
0 تعليق على موضوع : ما تبقى من مؤسسة الجامعة العربية
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات