كان من الصعب التمييز بين من يسيئ أكثر الى الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة: المؤيّدون الذين أصرّوا على استمراره شكلياً في الحكم على رغم حاله الصحية، أم المعارضون الذين طالبوا بعدم ترشيحه لولاية خامسة. المؤيّدون ليسوا الأنصار الموزّعين في أرجاء المجتمع والمناطق، فهؤلاء موجودون طبعاً لكنهم مثل سائر البشر يعرفون أن تحميل الشخص فوق طاقته الجسدية مبالغةٌ غير سليمة وغير مبرّرة لإبقائه على رأس الدولة، لكن «المؤيّدين» صانعي الأزمة هم تلك المجموعة المستفيدة التي يضمّها ائتلاف مصالح وبات تُوصف في الدوائر الديبلوماسية بـ«الزمرة العائلية - السياسية - العسكرية - البزنسية»، إذ أحاطت بالرئيس واستطاعت منذ ولايته الثالثة أن تشكّل اللوبي الحاضن للحكم، وما لبثت أن استغلّت مرضه لتبلور خلال ولايته الرابعة المنتهية صيغة «الحكم بالوكالة» عن الرئيس، وباسمه، محتويةً الدولة والحزب الحاكم والأحزاب المتحالفة معه. أما المعارضون فهم طيف واسع من الأحزاب، بعضٌ منها جدّي ومعظمها باحث عن مصالح مع السلطة، وقد انضمّ إليها في الأعوام الأخيرة عسكريون سابقون ناقمون على التصفيات التي أجراها بوتفليقة أو أجريت بالنيابة عنه. لكن موجة الاحتجاجات جاءت من خارج هذه الأطر، وكان الشباب، أو «جيل بوتفليقة»، الذي لم يعرف رئيساً سواه خلال عشرين عاماً، نواتها الرئيسة التي فاجأت الجميع بقوّتها السلمية وسلوكها الواعي.
منذ 2014 حين ظهر الرئيس المرشح مقعداً على كرسي متحرّك، ولم تثر إعادة انتخابه سوى احتجاجات محدودة، كان مفهوماً أنها بحكم الضرورة ولاية رابعة وأخيرة، وأن لدى أطراف السلطة خمس سنوات للتفكير والتدبير تهيئةً لـ«ما بعد بوتفليقة». لكن أعضاء اللوبي استهلكوا الوقت بانشغالهم في ترتيبات وإقصاءات لإدامة نظامهم وحكمهم، ولم يهتمّوا بإصلاحات تمسّ مستقبل الدولة والنظام. حتى أنهم ظهروا، مع انقضاء المهلة، بلا أي أفكار أو خطط، كما لو أنهم فوجئوا بالاستحقاق، ومع ذلك لم يبادروا الى طرح بديل أو بدائل، على رغم أن معرفتهم العميقة بالأوضاع الداخلية تستوجب ذلك. لم تكن هناك حاجة للكثير من البحث لإدراك أن فكرة «الولاية الخامسة» لن تمرّ بسهولة، لن يقبلها المجتمع بدليل أنه اعتبر مجرد طرحها إهانة واحتقاراً له، واستشعر في فرضها عليه إذلالاً. لكن، بين الخيارات المتاحة ونتائجها المتوقّعة، وازاء غياب التوافق في ما بينها، فضّلت أطراف السلطة ما يناسبها لا ما يناسب الجزائر وشعبها: أي، يبقى بوتفليقة واجهة «اللوبي الحاكم» طالما أنه على قيد الحياة.
طوال الأعوام الخمسة الماضية لم يكن دقيقاً القول أن الرئيس قرّر أو وقّع أو وجّه أو قال أو استقبل، فأكثر من مسؤول حكومي أو حزبي يجزم بأنه لم يره وإذا رآه أو ظهر معه في صورة فهذا لا يعني أن الرئيس كلّمه. وأفاد زائرون أجانب بأن البروتوكول أبلغهم قبيل ادخالهم الى مكتب الرئيس بأنه لن يتحدّث إليهم وأن في إمكانهم أن يحدّثوه أمام الكاميرات، وبذلك يحقّق الزوار هدفهم بالاطلاع على حاله وتحقق السلطة هدفها ببثّ صورة عن نشاطه. وفي العاشر من شباط (فبراير) الماضي، حتى مع إذاعة بوتفليقة بيان ترشّحه مجدّداً، متضمّناً وعداً بمؤتمر وطني وتعديلات دستورية تتضمّن تعيين نائب له، كان واضحاً أن المجموعة الحاكمة هي التي صاغت البيان وأرادت بتلك الوعود تنفيس الاحتقان واستباق أي احتجاجات. غير أن مسعاها لم ينجح وراحت نذر المواجهة مع المجتمع تتجمّع شيئاً فشيئاً.
في جانب السلطة كانت معالم الفشل بادية في اضطرار المجموعة الحاكمة للمضي الى ولاية بوتفليقية خامسة، على ما في ذلك من إساءة للرجل وللنظام نفسه. وفي الجانب الآخر أيضاً، أي المعارضة، ظلّت معالم الفشل على ما كانت عليه دائماً. فالنظام لم يتوقف طوال عقود عن مصادرة الشأن السياسي والعبث به، ولم يسمح يوماً بعمل سياسي حرّ، ثم أن صعود الإسلاميين والمواجهة المسلّحة بينهم وبين سلطة العسكر خلال التسعينات تركا دروساً قاسية استغلّتها المؤسسة العسكرية - الأمنية لتصوير نفسها صنواً للاستقرار من دون أن تستوعب ضرورات تعزيز النظام بإصلاحات سياسية واقتصادية تأخّرت وصارت بالغة الإلحاح. ومع انهيار الدول وتفكّكها في أربع دول عربية ازداد المجتمع وعياً بأرجحية حل المشكلات بعيداً عن العنف، أي بالسياسة، وهو ما نهجه بوتفليقة في ولايتيه الأوليين، وكان يفترض أن ينتقل في الولايتين التاليتين الى إنهاض الاقتصاد وتفعيل التنمية وبالأخصّ مكافحة الفساد، وهو ما لم يحصل لأن الحاكمين بالنيابة كانت لديهم أولويات أخرى أمعنوا معها في مأسسة الفساد.
عندما تنزل الأزمات الى الشارع فهذا مؤشّر الى أن الساسة فشلوا. ومن سمات المواجهة في الجزائر أن دروس ثلاثة عقود من التوتّر بين شبه حرب أهلية وخروج من هذه الحرب وترقّب لإصلاح النظام جعلت كل متظاهر ملتزماً شخصياً الحفاظ على الحراك الشعبي سلمياً، تحديداً لأن المواجهة غير متكافئة مع سلطة لا تتردّد في استخدام العنف المفرط، وأيضاً لأن الحراك يريد تحقيق هدفيه الرئيسيين («لا عهدة خامسة» و«اسقاط النظام»). ومن جهتها، أدركت السلطة ضرورة ضبط النفس لئلا تتحمّل بوضوح مسؤولية اشعال العنف وسفك الدماء، خصوصاً أن بعض أطرافها لم يستبعد هذا الخيار لإخماد الاحتجاجات، وإذ وجدت نفسها مجبرة على تنازلات رأت أن تُقدم عليها شكلياً، كما في الافراج عن صحافيين بعد اعتقالهم أو عدم الضغط على الاعلام الرسمي كي يقلّل من الحراك. ومع أن النظام معروفٌ بأنه لا يتراجع عادةً أمام ضغط الشارع إلا أنه وقع في مأزق لا يُعالَج بالقوّة ولا بتجاهل المطالب الشعبية، لذا ارتأى الهروب الى أمام بـ «نصف تنازل»، فمضى الى تقديم ترشيح بوتفليقة بالنيابة عنه نظراً الى وجوده في جنيف للعلاج، وأعاد صياغة بيان الترشيح متضمّناً عرضَين جديدَين، أولهما إشارته الى «تغيير النظام» عبر مؤتمر وطني وتعديلات دستورية، وثانيهما تعهّد (باسم الرئيس) بالدعوة الى انتخابات مبكّرة، أي اختصار الولاية الخامسة بمرحلة انتقالية.
أُريد لهذا السيناريو أن ينزع فتيل الأزمة أو أن يؤجّل انفجارها، وكان نبأ «استدعاء» بوتفليقة مستشاره رمطان لعمامرة ليبحث معه في تعيينه رئيساً للوزراء (بعد فوزه المضمون في الانتخابات) مؤشراً الى تغيير الحكومة، وهو من مطالب الشارع. وفي مؤشر آخر قيل أن بيان بوتفليقة دُرس بين الموجودين معه في المستشفى في جنيف والأطراف الأخرى في العاصمة الجزائرية، مع استئناس برأي ممثلين عن الرئاسة الفرنسية. وتكمن خطورة السيناريو في منحيَين، إذ أنه يعبر أولاً عن استحالة التنازل أكثر مهما تصاعدت ضغوط الشارع، ويلفت ثانياً الى صعوبة اقناع الجزائريين به بسبب انعدام الثقة بين السلطة والشارع. فليس خافياً أن الأزمة عميقة ومزمنة وبالغة التعقيد، ثم أن «نصف تنازل» يعني «نصف حلّ». وبالتالي ليس واقعياً القول أن الولاية الخامسة ستُختصر بمرحلة انتقالية وتقلّص الى سنة أو سنتين، فلكي تكون هناك مصداقية للأفكار المقترحة يُفترض البدء فوراً بالعمل لجعلها مشروعاً جدّياً وهادفاً.
وأول الطريق أن تؤجّل الانتخابات، وأن تكون لدى أطراف السلطة القدرة على إعطاء ضمانات، لأن الأسئلة المطروحة كثيرة، ولأن تأجيل كل شيء الى ما بعد فوز بوتفليقة لا يخلو من مجازفة، خصوصاً اذا تفاقم المرض وتوفي، إذ أن المجموعة الحاكمة باسمه قد لا تحافظ على التزاماته. وعلى افتراض أن الرئيس يعي تماماً ما قيل باسمه ويعنيه ولديه إرادة ناجزة للقيام به فهل يستطيع تطبيق تعهداته في المهلة الزمنية المقترحة، وهل يستطيع فعلاً تحقيق المطلب الأول والأهم منذ استقلال الجزائر وهو اعادة العسكريين الى الثكن والإفراج عن الحياة السياسية بما تعنيه من حريات واحترام للدستور والقوانين؟ وهل يمكن إنهاء هيمنة حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم للاعتراف بالتعددية وإفساح مجال للمعارضة ووضعها على محك الجديّة؟.. هذه عينة صغيرة من مهمات الحوار الوطني والمرحلة الانتقالية، فثمّة اهمالات تاريخية كثيرة تراكمت وينبغي إصلاحها
0 تعليق على موضوع : الجزائر: «نصف تنازل» يعني «نصف حلّ»
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات