تتفق أنقرة وواشنطن على منع سوريا وإيران من «ملء الفراغ الأمريكي» في مناطق شرق الفرات، لكنهما تختلفان حول الجهة الأنسب لملء هذا الفراغ ... واشنطن تريد أن يكون لوحدات الحماية وقوات «قسد» الدور الرئيس في هذه المنطقة، وأنقرة تصر على تفكيك الوحدات وتقطيع أذرع (ورؤوس) من تصفهم بالجماعات الإرهابية، وإغراق من تبقى من الأكراد المسلحين تسليحاً خفيفاً ببحر من المليشيات العربية السنية والتركمان وغيرهم، فلا تعود للأكراد كلمة مسموعة أو موقف مقرر.
وتتفق أنقرة مع موسكو على الترحيب بانسحاب القوات الأمريكية واستعجاله، وكلتاهما لا ترغبان في رؤية وجود إيران متعاظم في هذه المنطقة، هذا مؤكد .... بيد أنهما تختلفان بدورهما حول من سيملأ «الفراغ الأمريكي» ... الأولوية بالنسبة لموسكو هي لعودة الجيش السوري إلى هذه المناطق، حتى وإن تمت هذه العملية بترتيبات خاصة مع الأكراد، بل ربما تفضل أن يتم ذلك عبر مصالحات تعمل عليها بين القامشلي ودمشق ... تركيا على موقفها من هذه المسألة، مع موسكو كما مع واشنطن.
أنقرة ذهبت مع واشنطن حتى آخر الشوط، وهي ما تزال تراهن على انشقاقات الإدارة، ترامب المتحمس للانسحاب وتسليم تركيا أدواراً أمنية متعاظمة في شمال سوريا من جهة، و»الدولة الأمنية العميقة» التي تخشى تركيا وتحذر من تزايد نفوذها ولا تريد أن تفرط بورقة الأكراد، وتريد الاحتفاظ بوجود عسكري أمريكي يزاحم النفوذين الإيراني والروسي ويتحداهما من جهة أخرى... لكن سعي أنقرة الذي لا يكل ولا يمل، لاجتذاب دعم واشنطن لخططها وطموحاتها في الشمال السوري، يصطدم في كل مرة بجدار الرفض والتحفظ الأمريكي.
لهذا لا تسقط أنقرة ورقة «الثلاثي الضامن لمسار أستانا»، فإن أخفقت مساعيها مع واشنطن لجأت لموسكو ... موسكو تجلس دائماً على مقعد الاحتياط بالنسبة لتركيا، أما طهران فهي «العدو الذي ما من صداقته بُدُّ»، وذلكم من «نكد الدنيا» كما يقول الشاعر العربي.
مَثلهم مَثل الأتراك، يقف الكرد على مفترق حاسم، يرقبون فوضى السياسة والقرار في واشنطن، وينتظرون معرفة موقع الخطوة الأمريكية التالية في سوريا ... بالنسبة لهم، تركيا ليست خياراً أبداً ... خيارهم دمشق، ولكن بشروط... تعويلهم بعد واشنطن على موسكو، التي تفضل أن تلعب معهم دور الوسيط «المتفهم لمصالحهم وطموحاتهم»... أما إيران فهي طرف غير مرغوب فيه، وشبح داعش يخيم فوق رؤوسهم ... تركيا من أمامهم وبحر من الأعداء والمتربصين من ورائهم ... لا مفر لهم من دمشق إلا إليها، والمفاوضات معها تجري في ربع الساعة الأخير، وأي تأخير أو تردد كما حصل في عفرين، ستكون نتائجه كارثية في شرق الفرات ... الأكراد لا يملكون ترف الانخراط في لعبة شراء الوقت، فالوقت بالنسبة كالسيف، إن لم يقطعوه قطّعهم.
دمشق تبدو الأكثر ارتياحاً من بين جميع اللاعبين الآخرين ... كيفما انتهت الصراعات في شرق الفرات وعليه، فالأرجح أنها ستحظى بشيء من المكتسبات ... الانسحاب الأمريكي «الآن أو بعد قليل»، يرفع عنها سيفاً ثقيلاً .... لا أحد في الشرق أو الغرب سيعطي تركيا ما تريد، وهذا أمرٌ سيترك للنظام مساحات جديدة من الأراضي السورية ليستعيد بسط سيطرته عليها ... مأزق الأكراد يدفعهم إليها بشروط أقل وظروف أصعب ... بعض العرب يريدونها هناك، لملء الفراغ، بدلاً من تركيا، وهذا تطور مهم في علاقات سوريا بمحيطها وفي نظرة هذا المحيط إليها ... روسيا تلعب دوراً متعاظماً، يصب لصالحها، حتى وإن آثرت موسكو «مراعاة» أنقرة بعض الشيء ولبعض الوقت ...
العراق يقترب من هذا الملف، نظراً لمساسه بأمنه واستقراره، وهو مولج في هذا السياق بملف مطارة داعش حتى داخل العمق السوري، ومنع عودتها من جديد ... وثمة من المعلومات والتقارير ما يشي بوجود حراك عشائري عربي في هذه المنطقة، مدعوم من أطراف عربية عديدة، تختلف على كل شيء وتلتقي عند الخوف من تركيا والسعي لاحتواء نفوذها وتقليص رقعة انتشارها السورية.
أما الولايات المتحدة التي تسبب قرار رئيسها الانسحاب الشامل والسريع من سوريا بكل هذه الفوضى والمخاوف والصراعات، فهي لا تمتلك الكثير من الخيارات والبدائل... فلا هي قادرة على منح أنقرة «وكالة حصرية» في المنطقة خشية على حلفائها الأكراد، ولا هي واثقة بأن الأكراد سيتمكنون من إدارة هذه المناطق والاحتفاظ بسيطرتهم عليها وسط هذا الحشد الإقليمي الطامح والطامع ... وإذا كانت إيران وداعش هما التهديدان الأكثر جدية لواشنطن، فليس من المستبعد أن تعمد واشنطن إلى تسليم المنطقة لخصمها اللدود في الكرملين، مع معرفتها المسبقة، أن السيادة على شرق الفرات ستؤول في نهاية المطاف لحليفه في «قصر الشعب» في دمشق ... أليس هذا ما اقترحته الـ»فورين أفيرز» محقة في عددها الأخير على أية حال؟
0 تعليق على موضوع : لماذا تبدو دمشق في وضع مريح؟ // بقلم : عريب الرنتاوي
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات