ملاحظات حول الديمقراطية 23 - 27)
كيف تكونت ونشأت الديمقراطية في التاريخ
اعداد : الاعلام الجديد
اعتقد انه من البديهيات عند المثقفين في أي مكان في العالم ان منشأ الديمقراطية تم في مدينتي أثينا واسبرطة اليونانيتين (الاغريقيتين) في زمن قدره الباحثون بانه ما بين القرنين السابع والسادس قبل الميلاد
وكانت الديمقراطية تعني تشكيل حكومة من جميع رجال المدينة الاحرار أطلقوا عليها اسم (حكومة المدينة) هي من تصدر القوانين وتشرف على تنفيذها ,, وهي ايضا من تنتخب الحاكم
وقد استطرد الفيلسوف اليوناني أرسطو كثيرًا في كتابه «حول السياسة» في شرح الديمقراطية الأثينية وما لها وما عليها.
وتصف لنا المؤلفات التاريخية كيف نشأت هذه الديمقراطية فتقول أن القبائل اليونانية هاجرت من الشمال البارد إلى الموانئ الدافئة في"شبه جزيرة المُورة"، واستقرت في الأراضي الخصبة وبدأت تكون ما يسمى «الدويلة» أو «" دولة المدينة"
وبرزت أثينا بصفتها دويلة ضمن الدويلات الأخرى في موقع جيواستراتيجي بارز، وتمتلك كثيرا من الثروات الطبيعية مقارنة بغيرها، كما أنها ملكت كثيرا من الأراضي الخصبة، وهو ما سمح لهذه الدويلة أكثر من غيرها بتكوين نظام اقتصادي متوازن بين التجارة والصناعة والزراعة، مما أثر مباشرة على شكل المجتمع ذاته وخلق الطبقات الطبيعية فيه.
وبدأت أثينا رحلتها السياسية، شأنها شأن المدن "الدول" الاخرى بنظام ملكي، ومع التطور والازدهار الاقتصادي بدأت الطبقات المختلفة تسعى لدور في التنظيم السياسي للدويلة الأثينية، وهو ما دفع النبلاء لتكوين مجلس لهم استطاع مع مرور الوقت التعدّي على السلطات الطبيعية للملك.
بعد تراكم قوة النبلاء ونفوذهم في اثينا، خصوصا بعدما طبّقت أثينا نظامًا أشبه ما يكون بالنظام الرأسمالي سيطرت فيه طبقة النبلاء على الدورة الاقتصادية في البلاد، وكانت الطبقة الدنيا هي التي دفعت الثمن بطبيعة الحال، خاصة بعد أن أفلست الطبقة الفقيرة بسبب المديونية التي أدت لتحولهم من مزارعين إلى عبيد بسبب الديون، وهو ما بات يهدد الطبقة الوسطى أيضًا.
وقد كان ذلك كفيلاً بدفع التغيير السياسي في هذه المدينة "الدولة" تدريجيًا إلى أن تم تعيين رجل القانون والمشرّع الأثيني سولون (Solon) لإدخال الإصلاحات على النظام السياسي اليوناني.
ويعد رجل القانون سولون أول من وضع أسس الديمقراطية الأثينية وكان ذلك خلال الفترة ما بين القرنين السابع والسادس قبل الميلاد في إرساء جملة من القوانين خلّصت أثينا من النزاعات الداخلية وأنقذتها من شبح الحرب الأهلية.
وقد باشر سولون تشريعاته بإصدار عفو عام والسماح للعديد من المنفيين بالعودة والحصول على كامل حقوقهم في سعي منه لمحو الذكريات السيئة التي عاشت على وقعها أثينا خلال الفترة السابقة.
وصاغ سلسلة من القرارات لم تقبلها طبقة النبلاء الا على مضض شديد، وكان على رأسها إنشاء «مجلس الأربعمائة» للمساهمة في الحكم بما يسمح بدخول الطبقة الوسطى والدنيا في النظام السياسي،
كما أنشئت «محكمة عليا» مفتوحة للجميع يصار إلى انتخابها من بين المواطنين، إضافة إلى إلغاء العبودية الناتجة عن المديونية وتحديد ملكية الأراضي ومنح المقيمين حق المواطنة، كما فرضت منع البطالة.
ضافة إلى كل ذلك قسّم سولون المجتمع إلى أربع طبقات حسب الدخل وقوانين الضرائب ووضع مجلسا عرف بمجلس الأربعمائة ينتخب أفراده من قبل القبائل الأربع بأثينا حيث أوكلت لهذا المجلس مهمة تهيئة المشاريع قبل الموافقة عليها. كما أرسى سولون ما عرف بمجلس المحلفين والذي اختير أفراده بالقرعة من جميع الطبقات للنظر في مختلف القضايا والخلافات عدا جرائم القتل.
ومع كل ذلك، فإن هذه الإصلاحات ساهمت بدور أقوى للطبقات المختلفة، لكنها لم تسيطر بالكامل على نفوذ طبقة النبلاء وقوتهم.
ومنعًا لتفاقم الأوضاع، لجأت القيادة الأثينية إلى سياسة توسعية جديدة لمحاولة توحيد دويلتها عبر الاستيطان والسيطرة على الدويلات الأخرى المجاورة، ومع ذلك، فإن هذا لم يمنع من ظهور الديكتاتورية مرة أخرى، في العصر المعروف بـ«عصر الطغاة».
وعلى الرغم من بزوغ نجم "بيزيزتراتوس" بوصفه نموذجًا لـ «المستبد العادل»، فإن سياساته لم تستطع احتواء التوترات الطبقية في البلاد، ثم ازداد الأمر سوءًا بعد ان ورث ابنه الحكم وكان مثالاً للحاكم الدموي العنيف .
وهذا الوضع أدى لتكاتف الجميع تحت قيادة أحد النبلاء يدعى "كلايسثينيس" الذي قام بانقلاب ناجح على آخر الطغاة، استطاع من بعده من وضع حد للسلطة المطلقة وصياغة نظام سياسي كفل له لقب «أبو الديمقراطية الأثينية».
ومن انجازاته الهامة توسيع «مجلس الأربعمائة» فبات يضم خمسمائة عضو يصار إلى اختيارهم بالقرعة، وهو ما شكل بداية لمفهوم السلطة التنفيذية، حيث تنبثق عنه عشر لجان معنية بإدارة الدولة؛ على رأسها المحافظون في المدن المختلفة،
وذلك دون انتقاص من سلطات مجلس النبلاء بوصفه أداة شبه تشريعية يحق لها رفض أو قبول مقترحات وسياسيات «مجلس الخمسمائة».
كذلك نصت التعديلات على تنظيم الانتخابات لهذه المناصب بشكل دقيق منعًا للتفرد في القرار، وأصبحت الجنسية حقًا للجميع على أساس الإقامة في أثينا.
وبهذا بدأت هذه الدويلة في تطبيق الديمقراطية المثالية المباشرة بما يمثل نموذجًا يكاد يكون فريدًا في التنظيم السياسي عبر التاريخ.
بعدها، وصل هذا النظام إلى قمته خلال حكم الزعيم اللامع "الحكيم بيريكليس"، وغدا النموذج الديمقراطي الأكثر تنظيمًا في أثينا، وصار يحقّ للمجلس اقتراح القوانين.
كما نظّم بيريكليس ما هو معروف بـ«مجلس جنرالات» تختاره الجمعية، وهو ما يعدّ تطورًا أكثر تنظيمًا للسلطة التنفيذية في البلاد.
وتولى بيريكليس قيادة هذا المنصب الذي يوازي اليوم رئيس الوزراء في النظم البرلمانية، الذي بدأ يعدل سلطات «مجلس الخمسمائة» تدريجيًا بشكل يحافظ على النظام السياسي وتوازناته منعًا لأي جهة أو شخص من الانفراد بالسلطة.
أيضًا بات أول نظام يضع معايير التوازن وتوزيع السلطات، خاصة بعدما صاغ نظامًا قضائيًا أكثر تنظيمًا وإتاحة للجميع تحت إشراف المحكمة العليا، وجرى تثبيت نظام المحلفين بالقرعة بحيث تؤخذ قرارات المحاكم من خلال حكم المواطنين أنفسهم بالأغلبية المطلقة.
وقد كان من الممكن أن يستمرّ هذا النظام بشكل طبيعي ولمدة زمنية طويلة، إلا أن واقع السياسة عكس غير ذلك.
وكان هناك عاملان أساسيان أثّرا مباشرة في زوال الديمقراطية الأثينية: الأول كان الصراع مع الإمبراطورية الفارسية عندما حاولت الأخيرة احتلال اليونان فدخلت معها في حروب ممتدة انتهت بتحالف الدويلات اليونانية لإلحاق الهزيمة بتلك الإمبراطورية الكبيرة بعد سلسلة من المعارك الشهيرة على رأسها معركة «ثيرموبولي» ومعركة «ماراثون».. وغيرهما.
غير أن الحرب أضعفت أثينا بشكل كبير ووضعت عليها الضغوط الاقتصادية والسياسية.
أما العامل الثاني الذي دمّر هذه التجربة الناشئة، فكان من صنع أثينا ذاتها بعدما لجأت لسياسة توسّعية وصفتها الكتب التاريخية بأنها سياسة «إمبريالية»؛ إذ سعت هذه الدولة لاحتلال الدويلات الأخرى والسيطرة، مما دفع كثيرا من هذه الدويلات إلى تطبيق مبدأ توازن القوى من خلال التحالف مع عدوّ أثينا المتمثل في دويلة إسبرطة، التي خشيت أن تؤدي هذه السياسة التوسّعية إلى القضاء عليها، فبدأت ما هي معروفة بـ«الحرب البيلوبونية» التي يمكن متابعة تفاصيلها من خلال الكتاب الشيق للكاتب اليوناني القديم ثيوسيديدس، وهي الحرب التي انتهت بخراب أثينا وسيطرة إسبرطة على مقاليد السلطة في شبه الجزيرة اليونانية.
وهكذا وئدت التجربة الديمقراطية اليونانية وعادت أثينا مرة أخرى إلى نموذج «الحاكم المستبد»، وخرجت هذه الدويلة من التاريخ الفكري والسياسي ولم تعد إليه مرة أخرى.
0 تعليق على موضوع : كيف تكونت ونشأت الديمقراطية في التاريخ
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات