لم تكن أغنية الأطرش نشيدا ثوريا في معبد الحب بل واقعا عاشته وتعيشه أجيال كاملة من الشباب، الذين أصبحوا كهولا ولمّا يحصلوا بعدُ على عش الأحلام ولا حتى ريشة واحدة!
الأحد 2019/03/10يسكنون في القصور وشعبهم في الأعشاش ضيقة
علاقتي بالفنان فريد الأطرش كانت على الدوام متذبذبة بسبب مزاجي المتغير، ثم إن ألحان الأطرش الرائعة كانت دوما تطغى على صوته فيبقى أحدها يأسرني فترات طويلة من الزمن، ثم أعود وأتخذ موقف الحياد.. حتى سمعت أغنية “أنا وأنت ولا حد ثالثنا”؛ بكلماتها الرقيقة التي غزت قلب الجميلة هند رستم في فيلم “الخروج من الجنة”. كانت الجنة التي صورها فريد لا تزيد عن “لقمة صغيورة تشبعنا.. عش العصفورة يقضينا.. الحب غطانا وفرشتنا وخدود الورد مخدتنا”!
في رأيي المتواضع، هذه الأغنية كانت الفخ الذي وقع فيه شباب الأمس عندما صورت لهم الحياة الوردية التي يمكن أن يعيشها عاشقان في عش زوجية (عصفوري)، يكتفون فيه بلقمة صغيرة ثم يتدثرون بعدها بالحب وورق الورد. بالتأكيد، لا يمكن لأي شخص أن يختار عش عصفورة على مزاجه ليعيش فيه بقية حياته، على مسؤولية فريد الأطرش، إلا إذا كان مسجونا سياسيا على ذمة رئيس عربي دكتاتوري يسكن شعبه في أعشاش ضيقة… ليستولي هو على عش كبير مؤثث بأكبر عدد ممكن من الكراسي يستطيع تبديلها طوال سنوات عمره الأبدية. لكن عش العصفورة الافتراضي ما زال، لدهشتي، مطمحا لملايين الشباب المكافحين الذين قضوا أعمارهم في لملمة ما تبعثره السلطات الحاكمة من أحلام.
لم تكن أغنية الأطرش نشيدا ثوريا في معبد الحب بل واقعا عاشته وتعيشه أجيال كاملة من الشباب، الذين أصبحوا كهولا ولمّا يحصلوا بعدُ على عش الأحلام ولا حتى ريشة واحدة! استيقظت اليوم عند الفجر كعادتي، في نوبة ألم عنيدة في رقبتي ومفصل الكتف.. مع أن مخدتي غير محشوة بالريش.
الآلام لا علاقة لها بالريش أو الأعشاش الضائعة، كل ما هنالك أن خلايا جسدنا، شأنها شأن الأصدقاء، تبدأ بخيانتنا مع التقدم في السن بعد أن تكون قد تعرضت إلى الكثير من الإجهاد والتلف طيلة دورة حياتها، تركت موضوع الخيانة مؤقتا وذهبت لإحضار كوب من القهوة بالحليب لأتناوله مع الدواء، ثم بدأت أتصفح الأخبار.
العنوان الأول الذي قفز أمام وجهي كان يقول “منزل للبيع في مقاطعة ديفون البريطانية، بخمسين جنيها إسترلينيا لا غير بسبب إهماله لسنوات وتراكم أوساخ، أغلبها من مخلفات الطيور التي كانت تسرح وتمرح في المنزل الخالي من النوافذ!” تطالعنا أخبار مشابهة بين حين وآخر؛ منازل للبيع بتكلفة أقل من ذلك بكثير بسبب حاجتها إلى مبالغ كبيرة تخصص للصيانة.. ثم خبر قديم كان يقول إن مالك منزل قرر بيعه بواسطة حيلة؛ حيث قام ببيع تذاكر “يانصيب” سعر الواحدة منها جنيهان إسترلينيان فقط، وكان يأمل في بيع نصف مليون تذكرة يجمع من خلالها مليون جنيه إسترليني، بعدها يجري القرعة لتحديد من يربح المنزل، وبذلك يكون المشتري قد اشتراه بجنيهين فقط. خطة اقتصادية مبهرة، لكني لم أتابع تفاصيل اللعبة. تركت خبر الخمسين جنيها على الطاولة وذهبت لإكمال أعمال التنظيف، لكن مشهد المنزل الرث شغل تفكيري. قلت لنفسي: لم لا؟ على الأقل، تنظيف وإزالة الغبار وكنس أوزان ثقيلة من مخلفات الطيور وطلاء المنزل، ستجعلني أشعر بالارتياح الذي يولده الحصول على مشهد مريح ومنعش لمكان كان مهجورا، مكان جديد على هذه الأرض يمكن أن يأوي إليه من هم في حاجة إلى المأوى. وربما أفكر في الانتقال إليه شخصيا، في واحد من القرارات المصيرية العشوائية التي غيرت وجهات كثيرة في حياتي.
ألحت الفكرة على خاطري بصورة أوضح بعد أن رأيتها تلمع على سطح وعاء الشوربة، وأصبحت الخواطر تتفرع إلى أفكار صغيرة وعنيدة. أنهيت عملي وأطفأت أنوار المطبخ، لأعود مسرعة إلى مكتبي فأبحث عن المزيد من تفاصيل الخبر الذي نشرته الصحيفة وقرأته على عجالة في الصباح الباكر، لكني لم أجده! هل كنت أحلم؟
نهى الصراف // كاتبة عراقية
0 تعليق على موضوع : عش العصفورة يكفينا
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات