بقلم : د. محمد فرّاج أبو النور*
اجتماع القمة الأخير بين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (19 يونيو 2018) ناقش عدداً كبيراً من القضايا المهمة المتصلة بالتحديات التي يواجهها الاتحاد الأوروبي في المرحلة الراهنة، وأساليب وآليات رفع مستوى التنسيق والإجراءات المشتركة لتعزيز وحدة الاتحاد العتيد وقدرته على مواجهة تلك التحديات.
معروف أن ألمانيا وفرنسا تمثلان أكبر اقتصادين في الاتحاد وفي منطقة اليورو، وتعتبران قاطرة للوحدة الأوروبية، لذلك فإنهما تحرصان على تعميق التفاهم وانسجام المواقف بينهما، وخاصة قبيل اجتماعات قمة دول الاتحاد الأوروبي، بهدف ممارسة تأثير أكبر على المناقشات، ومن ثم على القرارات «القمة الرسمية للاتحاد الأوروبي ستكون يومي 28 و29 يونيو/حزيران الجاري، وقد سبقتها قمة تشاورية غير رسمية يوم 24 يونيو حضرها 15 من دول الاتحاد ال28».
قمة «ميزيبيرج»- قصر تاريخي ألماني - بين ميركل وماكرون ناقشت قضايا اقتصادية ومالية، وأخرى تخص سياسة التعامل مع الهجرة غير الشرعية واللجوء.. إلا أن أهم ما ناقشه الزعيمان واتفقا عليه هو الدعوة لإنشاء مجلس أمن خاص بالاتحاد الأوروبي «من أجل خلق فرص لتعاون أوثق عبر اتخاذ القرارات في إطار الاتحاد الأوروبي وفي المنتديات الخارجية.. وتنفيذ القرارات المتخذة من جانب دول الاتحاد الأوروبي بصورة أكثر فاعلية، خاصة في مجال السياسة الخارجية والأمن».
المجلس المقترح يختص بقضايا السياسة الخارجية والأمن.. أي أنه إطار يعبر عن شخصية ومصالح الاتحاد الأوروبي في علاقته ككيان «جيوسياسي» بالكيانات والمنظمات الأخرى.. وهو مفهوم أوسع بكثير من الأمن بمعناه الضيق البوليسي أو المخابراتي.. «فإعلان ميزيبيرج» يتحدث في نقطة منفصلة عن زيادة عدد العاملين في وكالة «فرونتيكس» لمواجهة التحديات القائمة أمامها وحماية الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، ودعم الدول التي تتحمل أكبر عبء من المهاجرين.
كما يتحدث الإعلان في نقطة منفصلة أخرى عن إنشاء وكالة أوروبية مشتركة خاصة بمسائل اللجوء، ووضع نظم وقواعد جديدة لتنظيم اللجوء وقضايا الهجرة، وتعديل ما ينبغي تعديله من هذه النظم والقواعد.
وهناك محادثات ومفاوضات أوروبية مستمرة حول قضية الهجرة الشرعية، وغير الشرعية، وسبل مكافحتها ونصيب كل دولة منها «الحصص» والمساعدات الواجب تقديمها للدول التي تعاني بصورة أكبر من الهجرة غير الشرعية مثل إيطاليا واليونان وإسبانيا مؤخرا.. الخ.
وبالرغم من أنه لم يصدر عن قمة ميركل - ماكرون تفصيلات بشأن «مجلس أمن الاتحاد الأوروبي» إلا أن تمييزه عن كل الأشكال التنظيمية والوكالات الأمنية «بالمعنى المباشر البوليسي والاستخباراتي» القائمة، وربطه بالسياسة الخارجية، يشير إلى المفهوم الذي ذهبنا إليه، والذي يؤكده تصريح ميركل بأن «برلين وباريس تفتحان صفحة جديدة في تعاونهما، وفي تاريخ الاتحاد الأوروبي».
وتجيء الدعوة الألمانية - الفرنسية لإنشاء مجلس أمن الاتحاد الأوروبي في لحظة يواجه فيها الاتحاد تحديات خطيرة ذات طابع استراتيجي، من أهمها انسحاب بريطانيا منه، بما تمثله من ثقل اقتصادي دولي.. وتدفق الهجرة بما تمثله من أعباء أمنية وتأثيرات على الهوية الثقافية لأوروبا، وبما تحمله معها من إرهابيين متسللين من الشرق الأوسط وشمال وغرب إفريقيا، فضلا عن مواطني الدول الأوروبية العائدين من ميادين القتال في صفوف «داعش» و«النصرة».. ورد الفعل الجماهيري على ذلك كله، والمتمثل في انتعاش التيارات «الشعبوية» واليمينية المحافظة والمتطرفة المعادية للهجرة من ناحية، والمناوئة للاتحاد الأوروبي ونظمه ونزعة الاندماج المتعاظمة في مؤسساته من ناحية أخرى.
أما ثالثة الأثافي فتمثلت في وصول دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة، بما يمثله من نزعات «شعبوية» و«حمائية» متطرفة «وعداء واضح للاتحاد الأوروبي باعتباره تكتلاً اقتصادياً منافساً للولايات المتحدة، ولدى دولة الكبرى بالذات فائض تجاري كبير مع أمريكا، وخاصة ألمانيا وفرنسا.
لذلك فإن ترامب لم يتوان، منذ أيام حملته الانتخابية، في إعلان تأييده لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي«البريكسيت»، ودعوة البلاد الأوروبية الأخرى للخروج من الاتحاد!! كما كان من أول قراراته بعد دخوله البيت البيضاوي، إعلان انسحاب أمريكا من«اتفاقية المناخ» التي تهتم بها أوروبا أشد الاهتمام، والتي لعبت الدور الأكبر في التوصل إليها، كما بادر بوقف مشاركة أمريكا في مفاوضات إقامة منطقة تجارية حرة عبر الأطلسي.
وأظهر ترامب مشاعره العدائية تجاه ألمانيا بالذات، باعتبارها زعيمة الاتحاد الأوروبي وصاحبة أكبر فائض تجاري مع أمريكا بين أعضائه (حوالي 70 مليار دولار).. فأساء معاملة ميركل أثناء زيارتها للبيت الأبيض، ورفض أن يمد يده لمصافحتها من أجل التقاط الصور التذكارية.. وحينما زار ألمانيا لحضور قمة العشرين في هامبورج (يوليو 2017) لم يتورع عن وصف الألمان بأنهم«شعب سيئ»، لأنهم يصدرون مليون سيارة إلى أمريكا كل عام و«يسرقون السوق» من صناع السيارات الأمريكيين!
ولسنا بحاجة للتفصيل في موضوع فرض الرسوم الجمركية على واردات الصلب (25%) والألمنيوم (10%) العالمية بما فيها الأوروبية، الأمر الذي أعلنت أوروبا أنها سترد عليه«الاتحاد الأوروبي».
ومن ناحية أخرى فإن ترامب يضغط بشدة على ألمانيا لوقف مد خط أنابيب الغاز«السيل الشمالي 2» من روسيا إليها.. وهي الضغوط التي ترفضها ميركل بشدة وتقول إنها لن تسمح بفرض عقوبات على شركاتها.
انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي مع إيران، وإعادة العقوبات عليها، وفرض عقوبات على الشركات الأوروبية المتعاونة مع إيران، بدوره أجبر عدداً من الشركات الأوروبية «فرنسية، ألمانية، بريطانية» على الانسحاب من الأسواق الإيرانية، لتستولي الشركات الصينية والروسية على مشروعاتها.. وهو ما يسبب توتراً إضافياً في العلاقات الأوروبية - الأمريكية، ويفاقم من شعور أوروبا بأن واشنطن لا تبالي بمصالحها..
الأمر الأكثر اتصالا بقضية«مجلس أمن الاتحاد الأوروبي» وقضايا الدفاع والأمن بمعناه الاستراتيجي، هو موقف ترامب من حلفائه الأوروبيين في حلف الناتو.. فمنذ البداية أعلن ترامب أن الحلف«قد عفى عليه الزمن»، وأن أمريكا قد أنفقت«الكثير من النقود» لحماية أوروبا، وآن الأوان لتدفع الأخيرة ثمن«الحماية». وأنه يستطيع أن يتفق مع الروس على خفض التسلح النووي، ويوفر«النقود» التي ينفقها على الناتو (70% من ميزانيته).
وردت عليه أنجيلا ميركل وقتها بأن أوروبا قادرة على الدفاع عن نفسها، ومن الواضح أنها ينبغي أن تفكر في ذلك!! علماً بأن المصالح في وجود الناتو بل وتوسعه نحو الشرق هي مصالح مشتركة بين أمريكا وأوروبا التي تخشى عودة القوة الروسية كما كانت تخشى القوة السوفييتية، مع اختلاف الظروف ودرجة الخشية، حتى بعد استرداد روسيا للقرم.
ونبادر إلى القول بأن هذه الخلافات لا تنذر بتصدع الناتو قريباً.. لكن أوروبا تشعر بالحاجة المتزايدة لكيان يدافع عن مصالحها الاستراتيجية وإن لم يكن عسكرياً.. الآن على الأقل يتم بناؤه تدريجياً في مواجهة الابتزاز الأمريكي والقوة الروسية المتصاعدة، ومخاطر الإرهاب الذي تفجره أمريكا في مناطق قريبة منها، ثم تتركها في مواجهته.. ولعل هذا هو أهم دلالات الدعوة الألمانية - الفرنسية لإنشاء«مجلس أمن للاتحاد الأوروبي».
*كاتب ومحلل سياسي مصري
- See more at: http://www.alkhaleej.ae/supplements/page/35115b4b-9ade-4cae-9d49-0c3493814023#sthash.gFpQsRpN.dpuf
0 تعليق على موضوع : «مجلس أمن أوروبي» للقرارات الاستراتيجية بقلم : د. محمد فرّاج أبو النور*
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات