شرين صالح – سوريا
حين كان دلو رضيعاً اعتادت أمه أن تدهن جسمه بزيت الحبة السوداء خوفاً عليه أن تصيبه عين حسد، فقد اتفقت كل نسوة الحي على أن جماله الطفولي لا يقاوم كان مغناجاً ذو غمازات ذو غمازات ساحرة، و لم تكن ضحكته الجذلى تفارق وجهه قط، عندما بلغ الرابعة، أخذته جدته ليعيش معها خلال عطلاته المدرسية في تلكوچر، بيت ممتلئ برائحة الحنانفي تلكوچر، بعيداً عن والده الذي كان جاداً و قاسياً معه، كان والده يعتقد جازماً أن كل هذا الدلال من أمه و جدته سوف يفسده.
ذات يوم عند جدته، ابتلع مقداراً من أرز مطبوخ، طعامه المفضل، كان غذاء مخلوطاً بالأدوية أعدتها جدته لدجاجاتها المصابة بمرض الجدري، باتت نبضاته غير محسوسة عندما فحصه الدكتور.
حضر ذويه و الجيران، و تعالت الأصوات بالنحيب و الصراخ، كانت والدته تردد و هي تلطم رأسها:
مات حبيبي المسكين.
وامرأة أخرى تقول بحزن:
فلنجهز الكفن..
لم تمضِ ساعة حتى استفرغ دلو كل ما في بطنه، و فتح عينيه محدقاً بمن حوله، نادت أمه بصوت عالٍ:
ولدي الجميل يعود حياً!
طفلي الهادئ حي!
حالما عاد دلو إلى وعيه قائلاً:
أنا جائع..
هناك عند طرف الباب رز لذيذ أريد بعضاً منه..
حين أصبح في الصف الثالث، نصبه المعلم عريفاً للصف،الطفل الجميل و المدلل لدى المعلم،كان يصدر الأوامر ويصرخ في وجه أي أحد تصدر منه حركة أو همس، كان التلامذة يتحاشون اغضابه، و كانت طلباته مطاعة لمكانته عند المعلم، كان يقف فوق كرسي المعلم، ليظهر أمام أنظار الآخرين، مرتدياً بنطالاً قصيراً بعدة طيات من الأسفل ليتم فكها عندما يطول، حتى أن طلاب صفه كانوا ينعتوه بالقصير( قتو ).
كان يزم أزرار قبته بحركات متباهية مقلداً وقار المعلم.
أثناء شرح المعلم للدرس، كان يصفر أو يصدر صوت مواء القطط بحركة خفية ثم يعدل جلسته ليتظاهر بالسكينة، ثم يشارك الآخرين البحث عن مصدر الصوت، متجاهلاً غضب المعلم.
اعتاد دلو أن يرمي بيوض العصافير من أعشاشها في ثقوب الأسقف و يراقب بمتعة من الأعلى حركة ارتطامها بالأرض.
أحياناً كان يقع ضحية مقالبه، ذات مرة أزاح أحجاراً كانت مثبتة أسفل عجلات عربة في أعلى المنحدر، لتندفع العربة بسرعة البرق وتدهسصيصان جارتهم هناريالتي كانت عادة تمازحه و تشده من وجنيه الممتلئينو تصفه بشيرينو، تصرخ و تولول غضباً قائلة:
عربة جان التعيس ثانية!
لاذ بالفرار من أعلى المنحدر إلى أسفله، فيهوى و يشج رأسه ويسيل الدم على وجهه، في طريق عودته لبيتهم صادف هناري تتوجه إليه ليتكور في مكانه مخافة توبيخ منها ليخبرها بكلمات متلعثمة:
لست أنا..
لم أفعل شيئاً..
لم تفهم هناري ما كان يقصده دلو لترد عليه بإشفاق و حنان:
يا إلهي ماذا حصل لك؟
لا بد أنها عين حسد يا عزيزي..
في الثانية عشرة من عمره، حين تلقى صفعة من والده، خرج من البيت غاضباً،تذكر حكايةجدته عن النملة التي كانت تجمع الحنطة وتخبأها في الأرض بعيداً عن برد الشتاء،بحث بناظريه عن شيء حاد في المكان ليجد قطعة حديد مرمي،
حفر حفرة تناسب جسده في أحد الساحات بيدين مرتجفتين من شدة البرد، استلقى فيها و غطى نفسه بالتراب متمتماً و باكياً:
أبي لا يحبني..
الجميع يكرهني..
فات وقت طويل قبل أن يشعر بالدفء يتسلل إلى جسده.
استيقظ في صباح اليوم التالي باكراً، نظر حوله يميناً و شمالاً محدقاً حوله، جلس في مكانه ونفض الغبار عن ملابسه، وقعت عينيه على لعبة دوامة خضراء قريبة منه،ظهر عليه الفرح وقفز صارخاً:
يا إلهي..
هذا ما كنت أبحث عنه..
نهض على الفور و التقطها من الأرض وعاد مسرعاً إلى البيت، كان الأهل و الجيران كلهم قد تجمعوا ينتظرون خبراً عنه بقلقو حزن بعد أن بحثوا عنهفي كل الأماكن التي كان عادة يتواجد فيها، كان والديه ينتظرانه في شرفة منزلهم بخوف و قلق ظاهر، فجأة شاهدا دلو يركض باتجاه البيت، نادت أمه و دموع الغبطة تغطي وجهها قائلة:
دلوووو..
أين كنت يا عزيزي؟
ينادي والده بملامح حزينة و شعور طافح بالذنب قائلاً:
بني..
أين كنت؟
أنا أحبك كثيراً، تعال لأضمك يا بني..
رفع دلو رأسه نحو الأعلى قائلاً ببهجة عارمة:
حقاً؟
يرفع الدوامة ويشير إليها قائلاً:
لقد عثرت على هذه الدوامة الخضراء..
لن أعطيها لأحد..
أنظرا كم هي جميلة!
0 تعليق على موضوع : دوامة خضراء | شرين صالح
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات