تونس في قلب الأزمة
من سوء حظ تونس أنها دشنت مسارها الديمقراطي في ظل عالم منفلت بسبب ثورة الاتصال وانتشار الأكاذيب والإشاعات، ورواج ثقافة التكفير والتخوين، واتساع رقعة التجاذبات الإقليمية والدولية.
أزمات سياسية ومصاعب اقتصادية واجتماعية لا حصر لها
في يوم واحد، خرج نائبان تونسيان في مجلس نواب الشعب بتصريحين ملتهبين. قال الأول إن البلاد تحتاج للبيان رقم 1، في إشارة إلى انقلاب عسكري، وقال الثاني إن البلاد أمام أحد احتمالين؛ إما الحرب الأهلية، وإما الإفلاس والوقوع تحت الوصاية.
لم يعد خافيا أن تونس تمر بمصاعب اقتصادية واجتماعية لا حصر لها، وأن وضعية المالية العمومية تمر بأعسر حالاتها على الإطلاق، وأن هناك صرخة مكتومة في قلوب التونسيين الذين يواجهون تراجع عملتهم المحلية، وارتفاع نسبة التضخم، ويعانون من غلاء الأسعار، واتساع رقعة الأداءات، وتراجع الخدمات في مجالات عدة، وصولا إلى فقدان أنواع كثيرة من الأدوية نتيجة عجز الصيدلية المركزية عن دفع الديون المتخلّدة بذمتها للمزودين الأجانب، وإلى حالة القلق لدى طلبة الإعدادي والثانوي بسبب حجب الأعداد من قبل نقابات المدرسين الداعين إلى تحسين ظروفهم، بينما يهدد إضراب الأساتذة الجامعيين الباحثين بموسم دراسي أبيض، ويمر النقل البري بأزمة خانقة، ويعاني ميناء رادس، أكبر موانئ البلاد للنقل البحري، من تعطّل خدماته بسبب إضراب العملة.
ولا يكاد مجال من مجالات العمل والإنتاج، يخلو من أزمة، حتى أن الرئيس الباجي قائد السبسي قال بمناسبة الذكرى الثانية والستين للاستقلال في العشرين من مارس الماضي إن 79.9 بالمئة من الشعب التونسي يشعرون بالإحباط والشباب في المقدمة. وأكد أن بلاده تأخرت في عدة مجالات وميادين منذ اندلاع الثورة في يناير 2011 حتى أن قيمة الدينار تدهورت بنسبة 54 بالمئة مقابل اليورو في الفترة الحالية.
كما أنّ “المديونية العمومية التي كانت تمثل 40 بالمئة سنة 2010 ارتفعت إلى 70 بالمئة في 2017، وارتفعت كتلة الأجور من 7 مليارات دينار (2.8 مليار دولار) في 2010 إلى 17.50 مليار دينار (7.2 مليارات دولار) في 2017. كما أنّ “معدل النمو الاقتصادي كان يقدر بـ4.5 بالمئة سنة 2010 بلغ اليوم 1.5 بالمئة في أحسن الظروف، وقدرت الخسائر التي سجلتها تونس نتيجة الإضرابات في قطاع الفوسفات بـ10 مليارات دينار (4.1 مليارات دولار)، وتسببت العمليات الإرهابية التي شهدتها البلاد خاصة في 2015 في تخفيض مداخيل السياحة.
هذه الأوضاع الصعبة مؤهلة لتكون أصعب خلال المرحلة القادمة. في ظل عجز النخبة السياسية عن تجاوز صراعاتها الأيديولوجية والحزبية الضيقة، وعجز الحكومة عن إدارة الشأن العام، وعجز الشارع عن فهم طبيعة التحديات التي تواجهها البلاد، بينما لا يزال جانب مهم من التونسيين يعيش نشوة الانفلات على جميع الأصعدة، ولا يزال الإعلام المحلي يبث الطاقة السلبية في نفس المتلقي ويلعب على التناقضات دون أي احترام لمصلحة الوطن العليا سواء في توازناته الداخلية أو في علاقاته الخارجية، وتحول البرلمان إلى مؤشر سلبي للمجتمع نتيجة الحرب الطاحنة التي تدور تحت قبته والمنقولة على الهواء للداخل والخارج، بينما اتسعت دائرة الفساد في كل القطاعات تقريبا، وبات الشك في مستقبل البلاد سائدا ومهيمنا.
إن الفرحين بالتجربة الديمقراطية في تونس هم المستفيدون منها ممن يتصارعون على السلطة رغم أن المرجعيات الفكرية لأغلبهم لا علاقة لها بالمسار الديمقراطي في بعده الليبرالي الطاغي على عالم اليوم، في حين يعاني الشعب من الواقع المتأزم والذي يزداد تأزما مع كل يوم جديد دون أي بريق أمل في الأفق، وتواجه الدولة محاولات الإطاحة بركائزها الأساسية نتيجة الاختراقات المتعمدة.
ويبدو أن من سوء حظ تونس أنها دشنت مسارها الديمقراطي في ظل عالم منفلت بسبب ثورة الاتصال وانتشار الأكاذيب والإشاعات ورواج ثقافة الحقد والكراهية والتكفير والتخوين، واتساع رقعة التجاذبات الإقليمية والدولية التي جعلت من البلاد هدفا لمشروع عابر للحدود، يضاف إلى ذلك أن ما حدث في يناير 2011 جاء بنخب يهدف أغلبها إلى تشكيل واقع جديد في غياب مؤسسات قادرة على حماية كيان الدولة من هجمة الأيديولوجيات المتصارعة، ومن الأطماع الفردية، والنزعات الجهوية والمناطقية والحزبية، ومن طموحات الحالمين بالعودة إلى الوراء عبر القفز الممنهج على دولة الاستقلال ومنجزها الإصلاحي.
واليوم تكاد تونس تجد نفسها وحدها في خضم واقعها المتلاطم، وحتى من وعدوها بالمساعدة مع بداية ما يسمّى بالربيع العربي تخلوا عنها، بعد أن وجدوها غير قادرة على مساعدة نفسها، وبينما تبرز للعيان طبقة الأثرياء الجدد الخارجين عن اقتصاد الدولة، والسياسيين المحترفين الممولين بخراج المهرّبين والدعم الأجنبي، يجد الشعب البسيط نفسه في مهب رياح العوز والفاقة، وتتحول تونس إلى بلد تائه ينام على حرب الفيسبوك الطاحنة، ويصحو على محللي الإذاعات، والاتهامات المتبادلة بين الساسة المتخمين إلى حد العجز عن التفكير بنجاعة في حلول قد تنقذ ما يمكن إنقاذه.
وما ورد على لساني النائبين علي بنور وسالم الأبيض من دعوة مبطنة لانقلاب عسكري أو من تحذير من أن البلاد أمام أحد خيارين، إما الحرب الأهلية وإما الإفلاس والوقوع تحت الوصاية، يؤكد أن على التونسيين أن يراجعوا الدرس جيدا، وأن يدركوا أن الاستمرار في ما هم عليه، لا يعد بما كانوا يحلمون به، لا حتى بالعودة إلى ما كانوا يشتكون منه.
0 تعليق على موضوع : تونس في قلب الأزمة - بقلم: الحبيب الأسود
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات