وأكمل الممثل "أمير كرارة" الذي أدى شخصية ضابط الصاعقة "أحمد المنسي" في المسلسل المصري "الاختيار" حديثه بقوله: "الناس دي اسمهم تكفيريين، لا هم مجاهدين، ولا إرهابيين، الناس دي كفرتنا وإحنا ما كفرناش، حربونا واحنا ما اعتديناش الناس دي ما تعرفش حاجة عن دين ربنا..".
استطاع سيناريست العمل "د. باهر دويدرا" في هذا المشهد الذي كان فيه الضابط "أحمد المنسي" يخاطب مجندي كتيبته ملامسة قضية هامة جداً، ألا وهي التوقف عن وصفهم بـ"الإرهابيين" واستبداله بوصف آخر "التكفيريين".
وذلك بعد أن نجح المتطرفون من الجماعات الإسلاموية الراديكالية المسلحة استغلال كلمة "إرهاب" وتوظيفها في أدبياتهم بوصفه بابا من أبواب "الجهاد"، ونسبته إلى الشريعة الاسلامية، من خلال تأويل الآية الكريمة في سورة "الأنفال" (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ).
هذا ومنذ نهاية الثمانينات وحتى منتصف التسعينات الميلادية، حيث بدأ المختصون الغربيون التمييز بين ما وصفوه "بالإرهاب القديم" أي: إرهاب الجناح اليميني و اليساري "العلماني"، وإرهاب بدوافع قومية عرقية، وفقاً لسمات عامة جامعة، وبين ما وصفوه بالإرهاب "الجديد" المرتبط بالتطرف الديني.
ومن ذلك الوقت أصبحنا نجد، ضمن أدبيات التيار الإسلاموي، نهجين في التعامل مع وصف الأشخاص أو الجماعات بالإرهاب، فمن جعل هذا الإرهاب مبرراً حتى في الحروب الهجومية أو بالمصطلح الفقهي "جهاد الطلب"، وليس فقط في حالة الدفاع عن النفس بمصطلح الفقهاء "جهاد الدفع".
كما وصف "سيد قطب" أن الانطلاق الحركي للإسلام إنما هو "في صورة الجهاد بالسيف – إلى جانب الجهاد في البيان"، منظراً إلى أن حصر الجهاد بالدفاع ليس من الإسلام في شيء، فالجهاد في الإسلام وفقا للمنهجية "القطبية" أمر آخر: "لا علاقة له بحروب الناس اليوم ولا بواعثها ولا تكييفها .. ثورة شاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر.. وانتزاع سلطان الله المغتصب .."، (تفسير سورة الأنفال الجزء التاسع من كتاب الظلال).
هذه المرحلة كانت هي المقدمة الطبيعية في تحول المصطلح إلى نهج آخر، وهو التفاخر المطلق بصفة "الإرهابي" و"الإرهاب" في كل الأحوال مهما كان العدو والهدف حتى في حروب الجماعات بينها، كالكتيب الذي أصدرته "الجماعة الإسلامية المصرية" في الثمانينات بعنوان "الإرهاب فرض والاغتيال سنة".
وحتما ما قاله الكويتي "عبد الله النفيسي" في محاضرة له محرضاً فيها على العمليات الإرهابية في الولايات المتحدة، مثالاً شافياً على ذلك، فالإرهابيون وأنا أنقل هنا بالنص: "أتقى ناس في العالم وأشرف ناس في العالم وأحسن ناس في العالم".
وهذه الجملة ليست إلا استلهاما من "عبد الله عزام" أو من يسمى بـ"شيخ المجاهدين"، الإخواني الفلسطيني القطبي حيث كان الأول، والأصرح، والأوضح في التنظير بالتفاخر بالإرهاب وذلك في محاضرة مرئية له ألقاها 1988 بمدينة سياتل الأمريكية.
قال فيها: "نحن إرهابيون لا نخفِ أنفسنا، نحن إرهابيون والإرهاب فريضة بالكتاب والسنة وما لم يرهبنا الكفار، فلسنا على الطريق الإسلامي إذا لم يرهبونا فلسنا مسلمين حقيقيين.. ممنوع أن تقوم دولة إسلامية أي واحد يفكر بالدولة الإسلامية إرهابي، يجب أن نعلنها نحن إرهابيون، المسلم إرهابي، والمسلم مرعب "نصرنا بالرعب"، ديننا قام بالسيف، بدون السيف ما في دين.. السيف لإزالة الطواغيت..".
فذاعت الخطب "العزامية" في معسكرات "بيشاور" و"هيرات" بين أمراء "الجهاد"، وتسابق المتسابقون إلى الثناء على "الإرهاب" ، فالمقالات في ذلك لا حصر لها منها: "كيف تكون إرهابيا" كتبه "عبد اللطيف الغامدي" 2004، ومقال "لا جهاد بلا إرهاب" لـ"محمد الالوسي"، ومقال آخر "حال الأمة الإسلامية والإرهاب المفقود" لـ"أبو عمر السيف"، و"الإرهاب: معناه وواقعه من منظور إسلامي".
وعمد خطباء التيار الصحوي الإسلاموي وقيادات الجماعات الراديكالية المسلحة إلى أن يوحدوا بين الإرهاب المرتكب من قبلهم وبين الإسلام، وأن يصوروا أن في إدانة الأعمال الإجرامية "الإرهابية" من تفجير وسرقة وقتل للمدنيين ورجال الأمن والأقارب، هو موقف لمعاداة الإسلام نفسه، بعد أن اختزلوا أنفسهم في دائرة وحياض الإسلام، وما هو إلا توحيداً باطلاً.
وربما كان "سيد قطب" هو أول من جعل كلمة الإرهاب محل ثناء وليس مصدراً للذم، في كتابه الشهير "ظلال القرآن" عند تفسيره لسورة "الأنفال" والآية السالف ذكرها "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ"، مستنداً بجملة كتاب "الجهاد في سبيل الله" لـ "أبو الأعلى المودودي".
قائلا في الجزء العاشر صفحة 1543: "أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي، وهو ينطلق لتحرير الإنسان كله في الأرض كلها، .. وإن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية، فتحكم الناس بشرائعها هي وسلطانها ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده".
وأتبع "سيد" تأصيله للمنهج الحركي في تفسيره لـ "ترهبون به عدو الله وعدوكم .." بـ: "إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون ومن وراءهم ممن لا يعرفونهم أو لم يجهروا لهم بالعداوة ..".
هذا التأويل القطبي التقفه الفلسطيني "صالح سرية" في كتابه "رسالة الإيمان" مؤسس ما عرف بـ"تنظيم الفنية العسكرية" أو "جماعة شباب محمد" 1973، لتنفيذ محاولة انقلاب على النظام المصري، باغتيال الرئيس المصري أنور السادات.
و من بعده "شكري مصطفى"، الذي أسس "جماعة المسلمين" أو كما عرفت بالإعلام باسم "التكفير والهجرة"، ففي رأيه أن هذا "الخطاب الإلهي موجه للمؤمنين في أول الزمان وفي آخر الزمان، ومن ثم فقتال جماعة المسلمين ستكون بالسيف والرمي وبالخيل وسوف يمكن الله لهم في الأرض".
ونتيجة تأويله كانت اغتيال وزير الأوقاف المصري "محمد حسين الذهبي" 1977، بطلقة في عينه اليسرى ليخرج منها الشيطان.
ثم جاء كتاب "الفريضة الغائبة" 1980 لـ"محمد عبد السلام فرج" والذي يعد الأساس الفكري الأول "لتنظيم الجهاد المصري"، والمنفذ لعملية اغتيال الرئيس المصري "أنور السادات" 1981، ناهلاً مما خلفه "سيد قطب" في منهجية الانطلاق الحركي للإسلام وفق منظوره وتفسيره لسورتي "الأنفال" وسورة "التوبة".
ومنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر انشغلت المجامع الفقهية في عدد من البلدان الإسلامية لبحث وصف مرتكبي الأعمال الإجرامية استناداً إلى مفاهيم شرعية، فمنهم من ذهب إلى وصفهم بـ"المعتدين" أو "البغاة" أو "الخوارج" أو "الفئة الضالة" أو "التكفيريين".
شخصياً أرى أننا بحاجة إلى وصف هؤلاء بالأوصاف التي تليق بأفعالهم، وبطريقة عصرية تتلاءم مع الدولة الوطنية لحرمانهم من الأرضية الشرعية والاستقبال الحسن التي يسعون إلى استغلالها بتأويلات تتلاءم مع منهج الجماعة وغاياتها.
وهنا نحن لا ندير ظهرنا للمفاهيم الإسلامية، ولكن لمنعهم من التوظيف والاتكاء عليها من قبل جماعات الإسلام السياسي الراديكالية المسلحة منها والسياسية، بإكساب أعمالهم الإجرامية هالة من "القداسة" وأن يتحول "الإرهابي" تبعاً لذلك إلى شخصية "رسالية"، بمعنى آخر وكأن هؤلاء هم من ينتصرون لهذه المضامين الإسلامية، لذلك علينا فك الارتباط بينها وبينهم.
الرئيس المصري "أنور السادات"، والذي اغتيل على يد الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد المصريتين، أظن أنه تنبه مبكراً إلى أهمية عدم استخدام أية ألفاظ تمنح الجماعات الراديكالية المتطرفة وهجا لدى العامة من الناس.
فاطلق اسم "جماعة الفنية العسكرية"، على جماعة "شباب محمد"، وكذلك "جماعة التكفير والهجرة" والتي كان اسمها "جماعة المسلمين" والتي أسسها "شكري مصطفى".
ونقيس على ذلك ما جرى في نماذج أخرى مثل "الجماعة السلفية المحتسبة" التي عرفت باسم بـ "جماعة جهيمان"، كذلك تنظيم "الدولة الإسلامية" والذي أصبحت تسميته الإعلامية بـ" داعش" وكان أكثر إيلاماً بالنسبة لخليفته وأمراء حربه، حتى أن لاحق بالقتل وقطع الرؤوس كل من أطلق عليهم وصف "الدواعش" في سوريا والعراق.
ونذكر هنا، أن تسمية "الخوارج" ذاتها كانت قد أطلقت من قبل مخالفي هذه الفرقة والتي خرجت على الصحابي "علي بن أبي طالب"، بينما كانت تسميتهم "أهل الإيمان" أو "الشراة" (أي الذين اشتروا أنفسهم لله)، بالإضافة إلى فرقة "المعتزلة" والتي أطلقت على نفسها تسمية مغايرة وهي "أهل التوحيد والعدل".
ولنتنبه إلى نقطة جوهرية وهي أن الإرهاب من المنطلق الغربي له جذور تختلف عما هي في الجذور الإسلامية، فالإرهاب لعدو الله هو من الجهاد من باب "الردع" أو "الدفاع"، كما أن استخدام وصف "إرهابي"، يوقع في خلط المفاهيم والألفاظ الشرعية، وكذلك المفاهيم الذهنية، حيث لن يرى العامة "الإرهابي" غير أنه "ملتزم" دينياً، "ضل" عن طريقه، أو "إخوة" بغوا عليهم.
ورغم أن لفظة "إرهابي" أو "إرهاب" مذمومة إلا أنها قد تحمل شيئا من المسحة الدينية، وهنا من مشكلات الفكر الغربي الذي أدخل أعمال الجماعات الراديكالية المسلحة الإسلاموية ضمن خانة "الإرهاب"، أنه لم يكن مدركا للجذور "الإسلامية" لهذا اللفظ فكأنما أسبغ هذا اللفظ المسوغ القانوني، ففي التراث الإسلامي لم تأت مفردة "ارهبوا أو ترهبون" في إطار مذموم بل ممدوح عند تفسير الآية، وذلك لأنها ببساطة لا تشير إلى المعنى المتداول في السياق الغربي الحديث.
وشخصياً أرى أن هذا من أسباب إشكاليات هذا المصطلح عربياً وإسلامياً، وربما لو وفق المترجم العربي إلى ترجمة مصطلح terror أو terrorist لكنا انتهينا من هذه الإشكالية.
كما أن الخلط في مفهوم الإرهاب جعل من الإرهاب الثوري اليساري (الاشتراكي والشيوعي)، مرآة ونموذجاً من قبل ما سمي بـ"الإرهاب الثوري الإسلامي"، مستنسخاً لأدبياته وشعاراته، وبات كتاب "حرب العصابات" لـ"ماوتسي تونغ" مؤسس جمهورية الصين الشعبية وزعيم الحزب الشيوعي، أحد أهم المراجع الرئيسية لتنظيم القاعدة و"داعش" وغيرها من الجماعات المسلحة.
ولعل قصيدة الشاعر العربي الثوري "أحمد مطر" التي نشرها عام 2002 وحملت عنوان "نعم أنا إرهابي" خير مثال، ومما جاء فيها: نعم أنا إرهابي .. أنصح كل مخبر .. ينبح بعد اليوم .. في أعقابي.. أن يرتدي دبابة .. لأنني سوف أدق رأسه .. إن دق يوماً بابي" .
كذلك فعل المفكر المصري "حسن حنفي" عند وصفه "خالد الإسلامبولي"، منفذ عملية اغتيال السادات بـ"الثائر، وأيضاً المكنى بـ"نصر الدين أبو المعالي" حين رد مستنكراً على من وصف زعيم جماعة "المرابطون" إحدى تشكيلات تنظيم القاعدة "هشام عشماوي" أو "أبي عمر المهاجر" بالإرهابي، وإخراجه عن دائرة "الثورة والثوار" في معرض رده على أحد الكتاب قائلاً في رسالة مطولة: "وأعلم يا سليم أن ثورة لا تعتبر أمثال عشماوي رموزاً ونماذج يحتذى بها ويقتفى أثرها، وينسج على منوالها هي ثورة خداج .. نحن بفضل الله أبناء الثورة المصرية ونقول هشام عشماوي منا ونحن منه..".
نعم وصف "الإرهاب" على الجماعات والتنظيمات كان له وقع مؤلم في إطار التداعيات القانونية والإجراءات الأمنية، إلا أنه وبالرغم من مضي أكثر من 20 سنة، على ما يعرف بمكافحة الإرهاب، لم يؤد ذلك إلى النجاح المرجو منه في إيقاف زحف إيديولوجية الجماعات الراديكالية المتطرفة، فضلاً عن التباين بين معايير الدول حول ماهية الجماعة الإرهابية.
لذلك فنحن بحاجة إلى إعادة تحرير المفاهيم والمصطلحات، ووضع أوصاف تليق بمجتمعاتنا بالانتصار لفكرة القانون بالسياق الطبيعي في دولة وطنية، والفعل في مآلاته ونتائجه، أليست الدوافع هي من اختصاص مراكز الأبحاث والدراسات الأمنية وتحليلات الطب النفسي، ونسأل هنا، لماذا لا يتم وصف "إبراهيم عواد البدري" زعيم تنظيم "داعش" وأركان مجلس الشورى خاصته كـ"مجرمي حرب" وتجري محاسبتهم أمام محكمة العدل الدولية كمحاكمة "جزار البوسنة" راتكو ملاديتش؟
0 تعليق على موضوع : لماذا لا نتحرر من مصطلح "الإرهاب"؟ // بقلم : هدى الصالح
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات