في أحيان كثيرة يكون لسلوك حاد أو لعبارة قاطعة فعلٌ تأويلي وإيضاحي لا يملكه كتاب كامل. قبل أيّام قدّمت بريطانيا عيّنة عن الخطاب الشعبويّ ومعناه تختصر الكثير مما نقرأه راهناً عن هذه الظاهرة المتفاقمة.
ففي مؤتمر حزب المحافظين السنوي الذي انعقد في مدينة برمنغهام، وقف وزير الخارجية جيريمي هنت خطيباً، فإذا به يرتكب تشبيه الاتحاد الأوروبي بالاتحاد السوفييتي!
لكنْ قبل الدخول في تفاصيل عبارة «هنت» الغريبة، لا بأس بالدخول في دهاليزها، أي في الظروف السياسية التي دفعت الوزير إلى قول ما قاله: فمن المعروف أن بريطانيا سوف تغادر الاتحاد الأوروبي في مارس المقبل، أي بعد خمسة أشهر فقط، وحتى الآن لا يزال الكلام عن اتفاق ينظّم علاقتهما في مرحلة ما بعد الطلاق يتراوح بين «تفاؤل» و«تشاؤم». وهذا ما يخلق لوناً من التوتر السياسي والديبلوماسي بلغ ذروته مع رفض الأوروبيين خطة الحكومة البريطانية المعروفة بـ«خطة تشيكرز»، فيما يتكرس بين المراقبين الاقتصاديين إجماع يقول بأن الطلاق من دون اتفاق سيكون كارثة على الاقتصاد البريطاني. إذن، لا بد من تصعيد سياسي وخطابي يحسّن الموقع التفاوضي للبريطانيين حيال الاتحاد.
إلى ذلك، هناك البريكزيتيون الأكثر تشدداً الذين يتزعمهم وزير الخارجية السابق بوريس جونسون، وهم الذين لا يكفّون عن نقد الاستراتيجية التي تتبعها رئيسة الحكومة تيريزا ماي في المفاوضات مع الأوروبيين، وعن اتهامها بالتفريط. هذا، إذن، سبب آخر للمزايدة في مواجهة أوروبا، بهدف قطع الطريق على المعارضة الشعبوية والقومية داخل حزب المحافظين نفسه.
لكن إذا كان هذان العاملان مفهومين بوصفهما تحديين لا بد من التعامل معهما، فما ليس مفهوماً هو الذهاب بعيداً في ركوب الموجة الرائجة، أو التي تبدو ظاهرياً كذلك، ولو من خلال ترداد كل قول لا عقلاني ولا منطقي. هنا بالضبط يكمن الفارق بين السياسي الشعبوي الذي يركب الموجة ولا يتردد في تقديم المزيد من الحجج الواهية لها، وبين السياسي المسؤول الذي يحاول أن يسيطر على الموجة عبر مخاطبة أشد عقلانية وتوافقاً مع المصالح الفعلية للشعب والأمة.
لقد اختار جيريمي هنت بتشبيهه الاتحاد الأوروبي بالاتحاد السوفييتي سلوك المقاربة الشعبوية التي تفتقر إلى أدنى شروط المنطق، إن لم يكن أدنى شروط المعرفة. فالاتحاد الأوروبي قائم تعريفاً على الحرية، وعلى الحق في تداول السلع والأفكار، وعلى الحدود المفتوحة وحريات السفر، وعلى احترام حقوق الإنسان. وهذا فضلاً عن أنه خيار طوعي تعتمده أنظمة ديمقراطية، فيما لا تتمتع سلطة بروكسيل بأي حق تدخلي فيها. وأخيراً، فإن الاتحاد الأوروبي الذي نشأ من خلال التداول الديمقراطي هو ما يمكن لأي بلد أن يتخلى عنه، أو ينسحب منه، بموجب التداول الديمقراطي نفسه، وذلك تحديداً ما فعلته بريطانيا عبر استفتاء بريكسيت في يونيو 2016. هذا كله ومن غير استثناء لا ينطبق على الاتحاد السوفييتي ذي النظام التوليتاري المغلق والمحميّ بالحزب الواحد ومعسكرات الاعتقال، ومصادرة حقوق التعبير والانتخاب والسفر وسواها.
هكذا نفهم مدى الغضب الذي أثارته عبارة جيريمي هنت في خطابه. إنه غضب الوعي الديمقراطي العقلاني من اللاعقلانية التي تنطوي عليها الشعبوية. ولم يكن بلا دلالة أن أشد تعابير هذا الغضب جاءت على لسان رئيس المجلس الأوروبي دونالد تاسك الذي اعتبر العبارة مهينة وقليلة الحكمة. فالرجل الذي قضى نصف عمره –بحسب قوله هو نفسه– في أحد بلدان الكتلة السوفييتية، ثم صار بعد سقوط الشيوعية رئيساً لحكومة بولندا، بدا أشد العارفين بخطل المقارنة وخطورتها. بيد أننا نكتشف، هنا أيضاً، كم تضعف المناعة في أيّامنا هذه حيال الشعبويّة، بحيث لا تقوى على صدّها اللغة السياسية البريطانية المشهورة تقليدياً بلون من الاتزان والدقة.
لكنْ قبل الدخول في تفاصيل عبارة «هنت» الغريبة، لا بأس بالدخول في دهاليزها، أي في الظروف السياسية التي دفعت الوزير إلى قول ما قاله: فمن المعروف أن بريطانيا سوف تغادر الاتحاد الأوروبي في مارس المقبل، أي بعد خمسة أشهر فقط، وحتى الآن لا يزال الكلام عن اتفاق ينظّم علاقتهما في مرحلة ما بعد الطلاق يتراوح بين «تفاؤل» و«تشاؤم». وهذا ما يخلق لوناً من التوتر السياسي والديبلوماسي بلغ ذروته مع رفض الأوروبيين خطة الحكومة البريطانية المعروفة بـ«خطة تشيكرز»، فيما يتكرس بين المراقبين الاقتصاديين إجماع يقول بأن الطلاق من دون اتفاق سيكون كارثة على الاقتصاد البريطاني. إذن، لا بد من تصعيد سياسي وخطابي يحسّن الموقع التفاوضي للبريطانيين حيال الاتحاد.
إلى ذلك، هناك البريكزيتيون الأكثر تشدداً الذين يتزعمهم وزير الخارجية السابق بوريس جونسون، وهم الذين لا يكفّون عن نقد الاستراتيجية التي تتبعها رئيسة الحكومة تيريزا ماي في المفاوضات مع الأوروبيين، وعن اتهامها بالتفريط. هذا، إذن، سبب آخر للمزايدة في مواجهة أوروبا، بهدف قطع الطريق على المعارضة الشعبوية والقومية داخل حزب المحافظين نفسه.
لكن إذا كان هذان العاملان مفهومين بوصفهما تحديين لا بد من التعامل معهما، فما ليس مفهوماً هو الذهاب بعيداً في ركوب الموجة الرائجة، أو التي تبدو ظاهرياً كذلك، ولو من خلال ترداد كل قول لا عقلاني ولا منطقي. هنا بالضبط يكمن الفارق بين السياسي الشعبوي الذي يركب الموجة ولا يتردد في تقديم المزيد من الحجج الواهية لها، وبين السياسي المسؤول الذي يحاول أن يسيطر على الموجة عبر مخاطبة أشد عقلانية وتوافقاً مع المصالح الفعلية للشعب والأمة.
لقد اختار جيريمي هنت بتشبيهه الاتحاد الأوروبي بالاتحاد السوفييتي سلوك المقاربة الشعبوية التي تفتقر إلى أدنى شروط المنطق، إن لم يكن أدنى شروط المعرفة. فالاتحاد الأوروبي قائم تعريفاً على الحرية، وعلى الحق في تداول السلع والأفكار، وعلى الحدود المفتوحة وحريات السفر، وعلى احترام حقوق الإنسان. وهذا فضلاً عن أنه خيار طوعي تعتمده أنظمة ديمقراطية، فيما لا تتمتع سلطة بروكسيل بأي حق تدخلي فيها. وأخيراً، فإن الاتحاد الأوروبي الذي نشأ من خلال التداول الديمقراطي هو ما يمكن لأي بلد أن يتخلى عنه، أو ينسحب منه، بموجب التداول الديمقراطي نفسه، وذلك تحديداً ما فعلته بريطانيا عبر استفتاء بريكسيت في يونيو 2016. هذا كله ومن غير استثناء لا ينطبق على الاتحاد السوفييتي ذي النظام التوليتاري المغلق والمحميّ بالحزب الواحد ومعسكرات الاعتقال، ومصادرة حقوق التعبير والانتخاب والسفر وسواها.
هكذا نفهم مدى الغضب الذي أثارته عبارة جيريمي هنت في خطابه. إنه غضب الوعي الديمقراطي العقلاني من اللاعقلانية التي تنطوي عليها الشعبوية. ولم يكن بلا دلالة أن أشد تعابير هذا الغضب جاءت على لسان رئيس المجلس الأوروبي دونالد تاسك الذي اعتبر العبارة مهينة وقليلة الحكمة. فالرجل الذي قضى نصف عمره –بحسب قوله هو نفسه– في أحد بلدان الكتلة السوفييتية، ثم صار بعد سقوط الشيوعية رئيساً لحكومة بولندا، بدا أشد العارفين بخطل المقارنة وخطورتها. بيد أننا نكتشف، هنا أيضاً، كم تضعف المناعة في أيّامنا هذه حيال الشعبويّة، بحيث لا تقوى على صدّها اللغة السياسية البريطانية المشهورة تقليدياً بلون من الاتزان والدقة.
0 تعليق على موضوع : نموذج الخطاب الشعبوي / بقلم : حازم صاغية
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات