ما يخشى فعلا هو محاولة اختطاف التحركات الشعبية وتوجيهها بغاية تنزيلها في رصيد من لا يستحقها ومن كان في ماض غير بعيد سببا في اندلاع الصراع الدموي في الجزائر.
الأحداث متسارعة وأنتم يا جزائريون كما نحن في تونس طموحون جدا وحالمون. غضبكم مخيف لأعدائكم وإيمانكم بإرادتكم سلاح لا يفله الحديد. لن أحدثكم عن عبدالعزيز بوتفليقة ورغبتكم في تغيير الأوضاع. سأحدثكم عن التاريخ الذي تعرفونه جيدا ولا شك في ذلك فنحن المغاربة مولعون بالتاريخ وبتفاصيله.سأحدثكم عن التاريخ بأعين من عايش “ثورة” حديثة جدا. سأحدثكم عن المخاطر، لتتمهلوا وتتأملوا دون أن تتوقفوا، فالوقت يمضي والسكون بادرة لعواصف قد لن تكونوا قادرين على صدها متى اندلعت.
الحلم بالتغيير وتحسين الأوضاع مشروع ومطلوب ولا أظن أن من حق أحد أن يناقشكم أو يحاوركم في هذا فأنتم على حق. لكن، تمهلوا وسيطروا على الأحداث كي لا تسيطر عليكم، واعتبروا من تجاربكم الماضية ومن تجاربنا وليكن الحساب صحيحا هذه المرة.
نحن كجيران نتابعكم بخوف ومحبة صنعتها الجغرافيا وثقافتنا المشتركة. نحن نحترمكم حتى من قبل “المظاهر الحضارية” التي احتفى بها الإعلام مؤخرا لأننا نعرفكم جيدا ونعرف أن المظاهر الحضارية ليست وليدة الساعة، بل هي متجذرة في ثقافتكم كما الطموح والأمل. واليوم وبعد مدة من اندلاع الاحتجاجات ضد الولاية الخامسة لبوتفليقة، يبقى لنا رجاء في أن تكونوا على وعي بما يدور حولكم وبما قد يحرمكم ربما من جني ثمار حراككم في مرحلة لاحقة.
هنا في تونس، وبعد ثورتنا، مازلنا نجتر مقولة جورج دانتون “الثورة تأكل أولادها”. والحال أن الثورة قد أكلتنا فعلا ولم يبق لنا نفس ثوري نصلح به أخطاءنا التي لم نتفطن إليها في البداية. فرجاء لا تخطئوا وتمهلوا.
منذ استقلالها قدمت لنا الجزائر عونا ودروسا. الجزائر كانت سباقة في جميع مراحلها التاريخية وقد شهد العالم في 5 يوليو 1962 كيف احتفل الجزائريون باستقلالهم بعد أن ارتفعت الأعلام الوطنية لأول مرة في شوارع العاصمة معلنة نهاية 8 سنوات من الحرب الدّامية و130 سنة من الاستعمار الفرنسي للبلاد.
بانتهاء الاستعمار كانت فكرة العدو المشترك قد انتهت، مما أدّى إلى أفول الوحدة والتماسك الشعبيين. وباختصار ما كان يحدث في الكواليس في تلك المرحلة كان انقساما لا وحدة وانشقاقا في صلب القيادة الوطنية. ولعلّ البلاد كانت وقتها قد تحررت، ولكن الشّعب لم يتحرر فعلا. ولعل ميل الطبقة السياسية للدكتاتورية في تلك المرحلة كان المنتصر الحقيقي بعد سنوات الحرب.
هذه مرحلة تاريخية أولى كان خلالها الشعب الجزائري يتوق للاستقلال فناله ولكن مع زيادة غير طفيفة لم يكن يتوقعها الجزائريون وربما لم يكونوا متفطنين لها: الانقلابات العسكرية، العنف والدّكتاتوريّة.
وبما أن موضوعنا هو موضوع التحركات الشعبية، فربما علينا أن نبرز جانبا آخر عادة ما يسهو عنه البعض في خضم الأحداث. فكما أن التحرك مهم، فإن النتائج مهمة أيضا. وربما على الجزائريين أن يحذروا من “الزيادات غير الطفيفة” على مطالبهم وبمعنى أوضح ربما عليهم أن يحذروا من تولية الأمر دون رقابة على من يتولّى الأمر.
شهدت الجزائر ما سمي بالربيع الأمازيغي في 1980 ولعل تلك المرحلة كانت بمثابة الفصل الثاني الأكثر تأثيرا في تاريخ التحركات الشعبية في البلاد. تميزت الاحتجاجات وقتها في بداياتها بالانخراط الطلابي في التحرك الشعبي، فكانت البداية من أحداث جامعة تيزي وزو في أبريل 1980 للمطالبة بالاعتراف بالهوية واللغة الأمازيغية، ثمّ توسعت رقعة الغضب لتمتد إلى المدارس والإدارات الحكومية والمصانع، قبل أن يأخذ التحرك الشّعبي منعرجا آخر تكشف للعموم بعد بروز الطابع السياسي.
مماطلة السلطة في ذاك الوقت وقمعها للمحتجين كانا العنصرين الأساسيين اللذين أديا إلى المزيد من التوتر واتساع رقعة الاحتجاجات. تطور الأحداث وقتها وإن كشف عن تسارع رهيب فقد أظهر عدم انتباه السلطة إلى تغير مجتمعي مهم، الجزائر لم تعد هي نفسها التي كانت في بداية الستينات حين كانت نسبة الأمية تقارب 78 بالمئة. ويبدو أن البلد تغير على مدى 20 سنة خاصة بعد بروز جيل جديد من تلاميذ المعاهد وطلبة الجامعات في فترة تميزت بتطور التعليم وانتعاش الثقافة.
فالشعب الجزائري الذي تخلص من الاستعمار في الستينات، وجد في الثمانينات عدوا آخر هو الانفراد بالحكم و”الحقرة” السياسية والاجتماعية التي أدت إلى تغول أقلية نافذة في مقابل الصعوبات التي كانت تواجهها الأغلبية الساحقة.
للتصدي لاحتجاجات الثمانينات اعتمدت السلطة وقتها إستراتيجية “فرّق تسد”. تقوم الخطة على ضرب طرف بطرف آخر فكان التنكر إلى إرث هواري بومدين اليساري والتقرب من الإسلاميين بإصدار مجلة أحوال شخصية مستوحاة من الشريعة الإسلامية.
لم يتوقف الأمر عند ذلك، فالسلطة في عهد الشاذلي بن جديد سلمت إدارة المساجد للإسلاميين وسمحت لهم بتوزيع المساعدات الاجتماعية والسيطرة على المدارس.
نجحت الخطة في قمع الثائرين وإخماد الاحتجاجات، ولكن في نفس الوقت تم إطلاق العنان للإسلاميين وإفساح المجال لتعطشهم الأزلي للحكم والسيطرة على عقول الناس.
التاريخ علمنا أن الانتفاضات التي تأتي عفويّة سرعان ما تذهب أدراج الرياح حالما يتمكن بعض الأفراد أو المجموعات من اختطافها. والتاريخ علمنا أن هذه المجموعات أو الأفراد هي أكثرها جبنا، فهي في غالب الأحيان لا تساهم في اندلاع الأحداث ولعلها تلتحق في الدقيقة الأخيرة ما يخلق صعوبة في التفطن إليها تحت تأثير النشوة الثورية.
التحركات الشعبية الثالثة في الجزائر كانت في أكتوبر 1988 بعد انهيار سعر النفط ودخول البلاد في أزمة اقتصادية غير مسبوقة. الاحتجاجات وقتها كانت الأعنف في تاريخ الجزائر وكانت أشبه بما يسمى بالربيع العربي، يقودها شباب بعفوية وبعنف ثوري يعبر عن سخطهم على نظام يواجههم بالقمع أو بالمكر واللعب على الانقسامات.
الجزائريون سباقون وثورتهم كانت قبل ثورتنا في تونس بـ20 سنة تقريبا، لكن الغريب في الأمر هو تشابه الأحداث بين ما حصل في تونس في 2011 وما كان في الجزائر في 1988، إذ بدأت الاحتجاجات بنفس الطريقة العفويّة ليلتحق بها الإسلاميون في الدقيقة الأخيرة. وجه التشابه الثاني هو تنازلات النظام مقابل عجزه عن إخضاع الشارع وهي تنازلات عادة ما تسمح بدرجة ما من الحريات السياسية وتأتي بعدها حالة إسهال حزبي من علاماته تكون المئات من الأحزاب.
بالتوازي مع الحريات السياسية، تأتي حرية الإعلام وعودة من كانوا في المنفى. ويبقى السؤال المحوري هنا: من سيستفيد من كل هذا؟ والإجابة طبعا: الأكثر تنظيما. ولسوء حظنا، الأكثر تنظيما في دولنا التي رزحت طويلا تحت حكم الحزب الواحد هم الإسلاميون. أما البقية المتبقية التّي تم منعها لسنين طوال من التواصل مع شعبها ومن تطوير آليات عملها السياسي فإنها ستجد صعوبة في مواجهة من يسيطر على المساجد وعلى أفئدة الناس وعقولهم لغايات سياسية.
ولعله من المعلوم أن ثورة تونس تم اختطافها من قبل الإسلاميين، فحزب حركة النهضة تمكن من التغول في ظل تشتت القوى الديمقراطية في البلاد تماما كما كان الأمر في جزائر التسعينات عند صعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ. الفرق الوحيد هو أننا قبلنا باللعبة الديمقراطية وربما بذلك تفادينا المواجهة العنيفة مع الإسلام السياسي.
هل كان ذاك اختيارا صائبا؟ يبقى هذا الموضوع مفتوحا للنقاش رغم أن بعضنا يعتقد أن تأجيل المواجهة سيسمح للإسلاميين حتما بتحقيق ما يسمونه “التّمكين” وبالتالي مزيد التغلغل في المجتمع التونسي وربما تهديد مكتسباتنا الديمقراطية وحرياتنا الفردية في وقت لاحق.
وإن رحل بوتفليقة في مرحلة ما، فقد يجد الجزائريون أنفسهم أمام نفس الاختيار الذي تم فرضه على التونسيين: إما الإسلاميون أو الوجوه القديمة؟ وقد يفقدون الأمل كما بدأ التونسيون فعلا بفقدانه بعد أن دخلت البلاد في حلقة مفرغة يعود فيها الإسلام السياسي للسيطرة في كل مرة نحاول تحجيمه فيها.
كيف يعود الإسلام السياسي كلما أردنا تحجيمه؟ يكون ذلك إما من باب التحالفات وإما من باب التوافقات أو من باب الدعم الخارجي من دول تستهدف السيادة وتبحث عن توسيع نفوذها.كلها سيناريوهات ممكنة وعلى الجزائريين أن يستعدوا وأن يحاولوا تجنب الأخطاء التي وقع فيها من سبقهم.
أقول هذا بعد أن لاحظت انطلاق آلة الدّعاية في العمل وشروع البعض في نشر مقالات للتّعريف بمن أسموه بـ”الزّعيم الإسلامي” علي بالحاج. وما يخشى فعلا هو محاولة اختطاف التحركات الشعبية وتوجيهها بغاية تنزيلها في رصيد من لا يستحقها ومن كان في ماض غير بعيد سببا في اندلاع الصراع الدموي في الجزائر.
وما أخشاه أيضا التطمينات المبالغ فيها التي يطلقها البعض بالقول إن الجزائر ليست سوريا وإن غياب العامل الطائفي سيجنب البلاد سيناريوهات الحرب الأهلية. التطمينات جيدة لكنها مخيفة ونحن نعلم أن ذكرى العشرية السوداء لا تزال تخيم على المشهد السياسي.
إيمان الزيات
كاتبة تونسية
0 تعليق على موضوع : الجزائر.. ضرورة مراجعة الدروس القديمة
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات