ما زالت ردود الفعل العديدة المستنكرة للحادث الإرهابي البغيض والخطر في استهداف مسجدي نيوزيلاندا تسود الاهتمام والصدارة السياسية والإعلامية، على رغم ما تلاه من حادث سلبي آخر في هولندا، والحادثان الإرهابيان اللذان ولدتهما مشاعر التعصب الديني بشكل مشترك، وتداخل التعصب مع العنصرية في الحالة النيوزيلندية بشكل أكثر حدة لا يبشر بمستقبل أفضل للبشرية التي يتزايد الخوف من دخولها في نفق مظلم.
أقول ذلك وأنا أخشى من تأثير ظاهرةٍ وتحدٍّ كبيرٍ آخر في عالمنا المعاصر، وهو تلاحق الأحداث وتجاوز الأحداث الكبرى بعضها بعضاً بما يشوش على الرؤية السليمة، ويحول دون المعالجة السليمة للأزمات والأحداث المؤسفة التي نعيشها في عالمنا المعاصر، وهي ظاهرة أثرتها مرات عدة في سياق متابعة الأزمات العربية الراهنة، ما أدى إلى سرعة فائقة في نسيان أحداث كبرى من جرائم إرهابية عديدة في مشارق الأرض ومغاربها، وتطورات مفصلية في العالم، أذكر منها مثلاً بالسرعة الفائقة التي تم بها تناسي اغتيال علي عبد الله صالح في اليمن، واضطرابات إسبانيا وفرنسا وفنزويلا والسودان والجزائر، وأزمة الهند وباكستان أخيراً، والتصعيد الأميركي الكوري الشمالي وغيرها كثير، وفوضى من الأحداث والاضطرابات التي تشغل الرأي العام الدولي والداخلي ثم تنتقل بؤرة الأحداث لموضع آخر، ويندر أن يعالج أي شيء في أي مكان إلا بشكل نادر، أخشى مع هذه الحالة المزاجية السياسية والإعلامية أن ينسى العالم بسرعة خطورة حادثة مسجدي نيوزيلندا، وهو ما لا يجب أن يحدث لأسباب كثيرة.
لا شك في صحة التعليقات والكتابات العديدة التي تحمّل اليمين المتطرف والشعبوي وبشكل خاص الرئيس الأميركي الحالي ترامب الكثير من المسؤولية في هذا الصدد، ولكن هذا ليس عادلاً بشكل كافٍ، فالصحيح والذي يجب أن نبدأ منه أن العنصرية والتعصب الديني كانا جزءاً لا يتجزأ من تاريخ البشرية والتي دفعت ثمناً باهظاً جراء هاتين الظاهرتين، والسجل طويل، الأقرب لعصرنا الحديث هو الحروب الصليبية، ثم الحروب الدينية في أوروبا بين البروتستانتية والكاثوليكية، وتلك بين المسلمين والهندوس، ولا يمكن تبرئة العالم الإسلامي خاصة تركيا من بعض هذه الممارسات. ما يجب تذكره كذلك أنه عبر التاريخ فإنه من الثابت أن مسؤولية العالم الغربي عن جرائم التعصب الديني والعنصرية تفوق مسؤولية المجتمعات الشرقية مجتمعة، النموذجان السابقان، وكل تاريخ الظواهر الاستعمارية الأوروبية، والفاشية والنازية أعلى مراحل فكر العنصرية وجذورها التي كان للحضارة الغربية الفضل غير المحمود في تطويرها هو أكبر نموذج للخسائر البشرية التي شهدها التاريخ، وحتى النموذج العنصري البغيض الذي تمثله الصهيونية اليهودية هو نتاج هذا التاريخ الأوروبي العنصري المتعصب، الذي يدفع شعب آخر لا ذنب له ثمنه وهو الشعب الفلسطيني، ومعه العربي الذي سببت الظاهرة الإسرائيلية الكثير من علله وأمراضه ودوافع التطرف فيه، ما يعود بالمسؤولية التاريخية قطعاً للقارة الأوروبية التي أنتجت العنصرية والتعصب الديني في أسوأ صورهما. ما يجب تذكره كذلك أن الأطماع المادية سياسية واقتصادية هي التي وظّفت العنصرية والتعصب كآيديولوجية ومبرر للتوسع وغزو الآخر وحكمه والمتاجرة في رقيقه. هنا المسؤولية ستتسع لكل من غزا وتوسع عبر التاريخ، وهنا سيكون نصيب الأسد للغرب وامتداداته في العالم الجديد، وهي التي بررت جريمة إبادة السكان الأصليين في العالم الجديد وبعض مناطق أفريقيا كما حدث في جنوبها، وهي التي سمحت لهذا العقل الغربي أن يجعل ميدان تجربة السلاح النووي الوحيدة عبر التاريخ هي هيروشيما ونجازاكي في اليابان.
على أن كل هذا الحديث السابق لا يدعو لانتقام، ولا يبرر أي جريمة كراهية من جراء العنصرية أو التعصب في أي مجتمع، وفي أي زمان، فالثابت أيضاً أن هذه الجرائم والرد عليها لا يصلح شيئاً ولا يبني مجتمعاً، وباستثناء جريمة إبادة السكان الأصليين في الأميركتين لم يثبت أنه قد نجح أحد في إبادة جنس بشري أو تهميشه للأبد، والدليل في جنوب أفريقيا، وتعذر تصفية القضية الفلسطينية حتى الآن وعلى رغم المخاوف بهذا الصدد فإنني لا أظن أن هذا ممكناً.
أهمية ألا نتناسى ما حدث في نيوزيلندا كونه حادثاً ضخماً في دلالاته، وما يمكن أن يقود إليه من عدم تأكد وانعدام للأمن واليقين في المجتمعات المختلفة، والتفاصيل المحيطة بالحادث تهدد بتكرار نماذج عدة في الاتجاهات المختلفة، ما قد يسبب نتائج كارثية للبشرية التي وصلت إلى حالة غير مسبوقة من المخاطر هي الأبرز في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ومن المفارقات المحيطة بهذه الظاهرة، أن صعود اليمين المتطرف الذي أحيا العنصرية والتعصب الديني يسير مع صعود لتيارات هي الأكثر ليبيرالية وانفتاحاً في تاريخ المجتمعات الغربية ذاتها، وهو ما أشرنا إليه في مقالة سابقة حول مستوى استقطاب غير مسبوق في الساحة الأميركية ما بين هذا التيار المتعصب الذي قاد ترامب للحكم، في مواجهة آخر نجح بالوصول بنساء مسلمات منهن فلسطينية وهذا ليس هيناً في المجتمع الأميركي، ويفوق في أهميته وصول صومالية محجبة من أصول مهاجرة إلى عضوية مجلس النواب، كلا الظاهرتين تعكس الاستقطاب الشديد الذي يصل إلى درجة التحدي في المجتمعات الغربية بشكل عام وبدرجات متفاوتة.
أن يحدث هذا الآن ولم يجف حبر وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقّعها ببعد نظر شيخ الأزهر الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب وبابا الفاتيكان، ما يؤكد أن الحبرين الجليلين على إدراك عميق بالمنحدر الخطر الذي قد يسقط فيه العالم بشكل كارثي، كما يؤكد هذا ما قلناه بصدد هذه الوثيقة أن المهم الآن هو تفعيل هذه الرؤية وانتقالها إلى مساجد وكنائس ومدارس العالم، وإلا لن يضمن أحد ماذا يمكن أن يحدث لو زاد انفلات الأمور مع وجود وسائل تواصل اجتماعي عصية على السيطرة والتحكم. ربما يكون أحد سبل تفعيل هذه الوثيقة تحولها إلى أحد مبادئ الحوكمة الدولية، وأن تنتقل إلى التنظيم الدولي لفرض تفعيلها، على رغم عدم اليقين بأن هذا ستكون له نتائج سريعة أو حاسمة، إلا أنه يظل خياراً يستحق المحاولة، ويمكن لبلد الأزهر مصر ودولة الفاتيكان القيام بدور محوري في هذا الصدد اعتماداً على هذه الوثيقة. ومن ناحية أخرى فإن الضمير الإنساني الذي وقف وعبّر عن رفضه إزاء هذه الواقعة، عليه أيضاً أن يدرك أن مسؤولية مواجهة التطرف ليست فقط للحكومات ولا المؤسسات الدينية والتعليمية ولا الجهات الأمنية والرقابية في العالم، فمواجهة هذه الظاهرة في فضاء التواصل الاجتماعي الهائلة حول العالم تحتاج إلى تضافر إنساني شامل من مؤسسات المجتمع المدني والأفراد، بما يتناسب مع هذه التحديات غير المسبوقة للبشرية.
0 تعليق على موضوع : العنصرية والتعصب الديني ومستقبل البشرية
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات