عن المثقف والتحديات الراهنة؟!..
بقلم : أ.و. ب* كاتب من سوريا
جرت العادة أن تتطلع المجتمعات إلى دور إنقاذي للمثقفين في أوقات المحن والأزمات أو في لحظات التحول العاصفة، كنوع من الإقرار بالوظيفة الخاصة لهم في الرد عما يستجد من تطورات، وفي إعادة بناء وعي نقدي وأفكار جديدة يفترض أنهم أقدر المعنيين ببنائها، الأمر الذي يفسر إلحاح السؤال عن حال المثقفين اليوم وما يمكن أن يفعلوه مع تسارع انكشاف أزمات مجتمعاتنا العربية والفشل البين للمشروع السياسي في وقف التدهور الحاصل أو الإمساك بزمام المبادرة لبدء رحلة عد عكسي نحو التجاوز والتقدم.
وعلى الرغم من أن المثقفين لا يشكلون كتلة متجانسة موحدة الأهداف والاهتمامات، بل هم جماعة متنوعة المهام تخترقها المصالح والصراعات الاجتماعية، إلا أن ثمة مشترك يجمعهم بصفتهم عموماً أشد الناس التصاقاً بالمعرفة وأقربهم إلى تحكيم العقل والنقد وأكثرهم استعداداً للتعبير الإبداعي والإنساني عن هموم البشر وتطلعاتهم، ما يضع على عاتقهم في مواجهة حالنا الراهنة بمختلف أزماتها ومآزقها السياسية والاجتماعية، مهمة المبادرة إلى تأسيس وعي تاريخي حول مسائل إشكالية لم تستطع الثقافة العربية التأسيس لها أو عممتها بصورة قاصرة ومشوهة، لعل في هذه الخطوة ما يعيد للمثقف النقدي حضوره ودوره وأيضاً تألقه...
علاقة المثقف بالسياسي
أولاً: فك الارتباط المرضي في علاقة المثقف بالسياسة، ولا يقصد هنا القطيعة بين حقلي النشاط الثقافي والسياسي بل تحديد التخوم بدقة وقراءة وجوه التمفصل والاختلاف بوضوح، بما يؤدي إلى تحرير المثقف من ماضٍ سيطرت فيه العوامل والأهداف السياسية على مسارات حياته وإنتاجه المعرفي، خاصة ذلك الدور المدمر الذي لعبته السلطات السياسية، ترغيباً وتهديداً، لإخضاع المثقفين واحتوائهم أو تهميشهم وتغييبهم.
وبديهي أن السلطة أي سلطة تحتاج لتثبيت ركائزها إلى عملية إنتاج فكرية داعمة ومن ثم إلى مثقف يعمم لها إيديولوجيتها من أجل تعضيد النظام الذي تقوده وضمان تأييد الناس لها وقبولهم بها، وليس من المبالغة في شيء لو قلنا إن الأنظمة السياسية التي حكمت مجتمعاتنا العربية طيلة العقود الماضية نجحت في استنبات فئات شتى من المثقفين الموالين لها ممن يصطلح على تسميتهم بمثقفي البلاط، تبدأ بأولئك الذين آثروا الصمت والتزموا الحياد والسلبية تجاه مآسي مجتمعاتهم ومعاناة ناسهم، يليهم من قدموا، طوعاً أو كرهاً، بعض أشكال الدعم والمساندة للحكام واكتفوا من الغنيمة بالإياب، وكان أسوأهم من اندمجوا في عالم السلطة ومغانمها وصارت مهمتهم الرئيسة تبرير سياسات الحاكم وتسويغ ممارساته الاستبدادية والدفاع عن بطشه وظلمه، فغاب دور المثقف النقدي وتصدرت قائمة (المبدعين) وجوه أتقنت الترويج لثقافة الوضع القائم وأسسه السيادية، بل كانوا أداة ناجعة لمحاربة قلة قليلة من أبناء جلدتهم بقوا أمناء للهم العام وحقوق الناس.
لكن سيطرة السياسة على الثقافة لم تنجب مثقفي السلطان فقط، فثمة فئة من المثقفين ليسوا أحسن حالاً داروا في فلك الأحزاب المعارضة ولم يميزوا أنفسهم كحملة مشروع خاص يتطلع، بالاستقلال عن الأفعال السياسية، إلى مساعدة المجتمع على التحرر والتطور، فرضوا من حيث المبدأ بإخضاع وظيفتهم الثقافية والمعرفية للغرض السياسي وان من موقع آخر، واندمجوا بالتنظيمات التي انتموا إليها وحولوا أنفسهم إلى ثلة من المحازبين أو الأتباع أو لنقل إلى ما يشبه الأبواق تدافع عن سياسات أحزابهم وبرامجها، فألغى المناضل السياسي دور المثقف الحر وأثمرت النتائج عن إجهاض الثقافة النقدية وإضاعة فرصة ثمينة لنمو الفعل المعرفي باستقلالية نسبية عن الأفكار السياسة المتصارعة، ما أدى إلى مزيد من تراجع مكانة المعرفة، من غاية في حد ذاتها إلى وسيلة انتقائية، يسعى المثقف إلى اكتساب ما يفيد منها لدعم مواقف حزبه وتبريرها.
إن الحقل الثقافي يختلف عن الحقل السياسي، فالثقافي يتميز بثباته النسبي وبصيرورة ترتبط بديمومة الإنتاج المعرفي بخلاف السياسي المباشر المتغير حسب الحال والأحوال والموصول بالحاضر في جريانه وتطوراته الذي يرتهن في تنوع مواقفه وتبدلها إلى توازن القوى وما تقرره في كل لحظة من اللحظات التاريخية. ومعنى هذا أن تغيير الذهنيات وأنماط الوعي يقتضي فعلاً معرفياً وزمناً أطول من زمن المبادرة السياسية وفعلها المباشر، ولهذا السبب تأتي أدوار المثقفين ووظائفهم ضمن أصول التأسيس الراسخ للمنظومة المعرفية كقاعدة أشمل يمكن أن تستند إليها السياسة الصحيحة في بناء مهماتها وأهدافها.
ثانياً: تحرير المثقف من سيطرة الوعي الإيديولوجي، سواء أكان قومياً أم ليبرالياً أم شيوعياً أم دينياً، فبعد كل التحولات التي حصلت في العالم المعاصر خلال الربع الأخير من القرن العشرين، وفشل الكثير من الاختيارات الإيديولوجية والفلسفات الارادوية والحتمية، لم يعد بإمكاننا إن نواصل التفكير بالآليات الذهنية نفسها ونتصور وجود جماعة بشرية قادرة بمرجعية فكرية مستنسخة أو مقتبسة على إنجاز الأهداف التاريخية وتجاوز إمكانيات الواقع وملموسية الحدث في المكان والزمان.
إن الاعتراف بانحسار الإيديولوجية كخيار معرفي وكنمط حياة، والإقرار بلا جدوى خوض الصراعات في مستوى الأفكار والنصوص لإثبات صحة هذا الموقف أو ذاك، يعني بالضرورة تقدم مبدأ مقارعة الحجة بالحجة والوقائع بالوقائع وإتاحة الفرصة لنشر العقلانية في التفكير وتوظيف المنهج العلمي وتطبيقاته العملية من أجل تفسير الواقع الحي وتحليله كظواهر ومشكلات محددة بعيداً عن تأثير الرؤى المسبقة والعوامل الذاتية والتحيز.
ينبغي التسلح أولاً وقبل كل شيء بطرائق الفكر العلمي النقدي المفتوح على مختلف التجارب التاريخية ودونه لا نتمكن من قراءة ناجحة للوقائع في تشابكها وتعقدها ومن ثم اختيار الوسائل الكفيلة بمعالجتها، ما يمهد لبناء رؤية جديدة تتفهم الاختلافات القائمة بين الناس وما يترتب عليها من اجتهادات ومواقف وتتعلم التعايش معها دون أن تسعى إلى تهميشها أو إلغائها، وربما تشكل مثل هذه الرؤية نقطة انطلاق لتجاوز ما يشهده المثقف والثقافة بصورة عامة من انحسار الاتجاهات العقلانية وتراجع المشروع النهضوي ودوره في استيعاب مقومات الحضارة الحديثة، وأيضاً للرد على الأصوات اللاعقلانية التي تدعو إلى العيش في الماضي والموروث دون نقد أو اجتهاد وبنفس القدر مواجهة الروح الدوغمائية في وجهيها الوطني والقومي ومدعي امتلاك الحقيقة المطلقة غير القابلة للاختبار أو النقاش من يغلبون الاستشهادات والعبارات المحفوظة على كل دليل عقلي أو تجريبي، ما يعيد صياغة دور المعرفة في الحياة، ويساعد على بناء التصورات المرتبطة بالتاريخ وتحديد المواقف المحتملة في سياق تحولات الأحداث وتطورها كما تجري على أرض الواقع لا كما ترسمها العقول والأفكار.
تبدد الصور المغرية
ثالثاً: دفع المسألة الديموقراطية إلى مرتبة الأولوية التي تستحقها في الفعل الثقافي وما ينجم عنها من تداعيات على مستوى أداء المثقف ودور المعرفة في السياسة والمجتمع.
في الماضي اتجه النتاج الثقافي بصورة رئيسة نحو مسألتين، تعلقت الأولى بالوطن والقومية، وبالأخص القضية الفلسطينية وبناء الوحدة العربية، وارتهنت الثانية بالبعد الاجتماعي والتطلع نحو مجتمع العدالة والمساواة والقضاء على الاستغلال، لكن اليوم تبددت هذه (الصور المغرية) وتكشف زيف التفرد بالشعارات الوطنية والاجتماعية وظهر للمثقف العربي أن المشروع الديمقراطي هو أشبه بخيار استراتيجي لا غنى عنه لمواجهة تردي الأوضاع العربية ومطامع الصهيونية والإمبريالية وبناء حياة جديدة.
لقد جربت المجتمعات العربية كل الخيارات الأيديولوجية، وجاءت النتائج مخيبة للآمال، فلا الأرض تحررت ولا الوحدة العربية تحققت ولا ارتقى الإنسان إلى مجتمع العدالة والرفاهية ولا حدثت النهضة الموعودة، ولعل نظرة متفحصة إلى هذه الحقائق التاريخية تسقط الكثير من الأوهام المعششة في الأذهان وتكشف في ذات الوقت بساطة المشكلة وأنها تعود أساساً إلى انعدام الثقة بالإنسان العربي، إلى غياب الحريات والتعددية السياسية، إلى مناخ الشمولية والاستبداد الذي ساد أمداً طويلاً ودفع بالتجارب كافة إلى طريق مسدودة.
لقد لعب غياب الديمقراطية والحريات دوراً نوعياً في انحسار الفكر الأصيل وتراجع دور المثقف النقدي والملتزم، ونجاح أنظمة الاستبداد في إلحاق المعرفة بالسلطة وفي كم أفواه المفكرين المخلصين وتحطيم أقلام النقاد الشرفاء أدى إلى خنق الثقافة وتدجينها وتطويعها لتصبح مجرد صدى أو أداة تبرير وتسويغ لا فعل إبداع، وما أكمل الدائرة ضعف مقاومة المثقفين الديمقراطيين أو تقصيرهم في نصرة الديمقراطية أو اختزالها في وعي بعضهم إلى حدود ما يعطيه السلطان وتأويل ما هو قائم من هوامش ضيقة على أنها الديموقراطية المطلوبة.
وتجدر الإشارة في حدود هذه النقطة إلى أن غالبية المثقفين وللأسف أحجموا لفترات طويلة ولأسباب متنوعة عن ممارسة نقد حازم ضد الاستبداد وانعدام الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان، ولم يظهروا قدراً كافياً من التضحية والشجاعة للاعتزاز بالحياة الديمقراطية وحرية التفكير والإبداع والتمسك بمعاييرها أمام ما تعرضوا له من ضغوط سياسية واقتصادية.
رابعاً: تصحيح علاقة المثقف مع محيطه ولنقل إعادة الاعتبار لموقعه المتميز في المجتمع وعمق صلاته مع الناس، فإذا تأملنا هذه العلاقة في مجتمعاتنا العربية نلاحظ اليوم أن ثمة انفصال واسع بين المثقف والجمهور العادي أو لنقل بين منتج الثقافة ومستهلكها، ليغدو حال المثقف أشبه بمثقف نخبوي محدود التواصل مع البشر وضعيف التفاعل معهم.
وإذا كانت المسؤولية الأساسية في خلق هذه الهوة تقع على عاتق الاستبداد الذي عطل فعالية الثقافة وأخضعها لمصالحه وحاجاته وقطع تيار المعرفة من الوصول إلى المجتمع تحت طائلة النفي والسجن وفي أحيان أخرى تصفية بعض المثقفين جسدياً، فان جزءاً من المسؤولية يتحمله المثقفون أنفسهم باستسلامهم لنتائج ما حصل والتردد في المجاهدة الذاتية لردم هذه الهوة، بل إدمان غالبيتهم التعايش مع حالة الغربة والعزلة، بما في ذلك التهرب من واجبهم في التعبير عن مشاعر المجتمع وحاجاته وإدراك مستلزمات تغييره.
وما زاد الطين بلة أن معظم المثقفين صاروا يكتبون كأنهم يكتبون لأنفسهم ويخاطبون بعضهم بعضاً بلغة ربما لا يفهمها إلا القليلون غيرهم، لتغدو كتاباتهم ضرباً من الترف المعرفي والتهويمات الفكرية، تعززها مفاهيم مغلوطة بأن من المعيب على المثقف استخدام لغة بسيطة يمكنها مخاطبة البشر وإيصال الفكر التنويري إليهم بكلمات يفهمونها ويحبونها، فيسابق أحدهم الآخر في استخدام المصطلحات الغريبة والمعقدة والمفاخرة بارتفاع (البرج العاجي) الذي آثر العيش فيه بعيداً عن هموم أهله وناسه.
أخيراً، يمكن القول إن انحسار السياسة وهزيمتها عقدا الأمل على دور تأسيسي للمثقف العربي كناقد منحاز لحقوق الناس وحرياتهم ولقيم الحضارة الإنسانية، قوي الإيمان بوظيفة الفكر والمعرفة وعزز الثقة بدور البشر في مقاومة الراهن وقيادة التغيير
0 تعليق على موضوع : عن المثقف والتحديات الراهنة؟!.. بقلم : أ.و. ب* كاتب من سوريا
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات