الثائر.. هل يصلح للحكم؟ // بقلم : محمد أمين بلقايم

إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ

فشلت «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» في التسعينات في ثورتها على «نظام الكابرنات» الظالم، وقُبِض على الآلاف ممن لهم علاقة بالأمر أو لم تكن لهم علاقة. ظللت عدة سنوات وأنا أدرس معظم الذين ثاروا على النظام، وأرادوا إقامة دولة جزائرية إسلامية بديلة عن حكمه، وخالطت البعض منهم واختبرتهم خلسة. وجدت الغالب عليهم أنهم شباب ثائر متحمس طيب مخلص، يريد التضحية بكل شيء حتى عمره من أجل تحقيق ما اقتنع بصحته، لم يتكسب يومًا من تضحياته، أعطى ولم يأخذ شيئًا. 

وسألت نفسي: ماذا لو حكم هؤلاء؟ فأجابتني سريعًا: كانت الكارثة ستحدث لأنني لم أر فيهم رغم إخلاصهم الكبير رجل دولة واحدًا، أو من يفهم «فقه الدولة» بكل ما تعنيه الكلمة، وما لاحظته هو أنهم يحسنون التضحية والثورة، ولكن مع كل احتراماتي لهم جميعًا، لا يحسنون إدارة الدولة ولا سياستها.

صارحت الكثيرين من إخواني وأصدقائي بهذا الرأي؛ فأقروا بصحته، ثم سألت نفسي سؤالًا عن «علي بلحاج الثائر»، وهل يصلح للحكم؟ عشت المسألة بكياني كله وخلصت للتالي:

الثائر إنسان عظيم، يضحي بوقته وجهده وماله ونفسه من أجل وطنه، لا يبخل بالمال حتى وإن كان في أمس الحاجة إليه، ولا يظن بنفسه حتى وإن عزت عليه، يتحمل التعذيب والذل والآلام من أجل أمته، فارس شجاع يواجه الطغيان المسلح بصدر عارٍ، ولكن هل يصلح الثائر للحكم؟

الثائر عادة في عمر الشباب تملؤه الحيوية، يريد التغيير السريع، لا يؤمن بسنة التدرج، وهي سنة كونية من اصطدم بها كسرت عظمه دون أن تتحطم هذه السنن؛ فقد خلق الله تبارك وتعالى السماوات والأرض بالتدرج في ستة أيام، وكان قادرًا على خلقها بـ«كن فيكون».

والثائر يرى أن جيله وأتباعه ومريديه هم الأحق بالقيادة، ويريد تنحية الآخرين بحجة أنهم رمز الوهن والخمول والضعف، وهو بذلك يضر وطنه لأنه يلغي تجارب وخبرات الذين عاركوا الحياة وعاركتهم.

والثائر عالي الهمة، ولكنه يعاني من ضعف وأنيميا الواقع وسياسة الحياة، الثائر يريد أن يهدم الكون ثم يعيد بناءه على طريقته الخاصة، وقد ينجح في الهدم، ولكنه يفشل في إعادة البناء بطريقة أفضل ما لم يستعن بأهل الخبرة.

والثائر عادة لا يصبر حتى يحدث الزمن أثره في تغيير المجتمع، وقد يشتد مع معارضيه، وينسى أنه الآن في سدة الحكم وعليه أن يصبر ويصفح ويعذر. الثائر قد يلجأ إلى الانتقام ممن ثار عليهم، ويعتقد أن الانتقام السريع هو الحل الناجح للمشكلات.

وإذا استعرضنا التاريخ وجدنا أن القذافي كان ثائرًا، فلما تولى الحكم قاد ليبيا بالجنون والسفه والسوط والسيف والقتل والسجون والمعتقلات، وأضاع ثروات ليبيا في مغامرات مجنونة، ودفع مليارات الدولارات لطباعة «الكتاب الأخضر» الذي أوهم شعبه أنه من تأليفه، وهو لا يستحق ثمن الحبر الذي كتب به.

ماوتسي تونج، فقد أقام دولة قوية في الصين، ولكنه أقامها بالحديد والنار والقهر والتصفية الجسدية وإلغاء هويات الآخرين وأديانهم.

أما صدام حسين فكان ثائرًا عظيمًا، يضرب به المثل في الجلد والعزم والحزم، حتى إنه كان يخرج الرصاص من جسده دون مخدر، فلما تولى الحكم قصف شعبه الكردي بالغازات الحربية والمحرمة في الحروب، وأدخل العراق في مغامرات مجنونة، سواء بحربه مع إيران، أو احتلاله للكويت التي طالما وقفت إلى جواره.

أما هواري بومدين وجمال عبد الناصر رغم حسناتهما العظيمة وعفة يديهما وعدالتهما الاجتماعية، إلا أنهما ألغيا التعددية الحزبية والدستور والديمقراطية وقيدا الرأي والحرية.

خالد نزار ثائر، قتل زوجته ويتم أولاده وأباد شعبه وخان وطنه، وكان سببًا في عدة أزامات، واتخذ قرارات جرت مستقبل بلاده إلى خندق مظلم. إن الله لا يعجل لعجلة أحد، فالإنسان عجول بطبعه، وأكثر طائفة متعجلة من البشر هم الثوار والشباب عامة.

لقد خلصت إلى خلاصة مهمة عن قضية العشرية السوداء في الجزائر، مفادها أن قادة حزب «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» وخاصة الرجل الثاني فيها «علي بلحاج» والجنرالات الذين قادوا الانقلاب، ثائرون لا يصلحون للحكم، بعضهم ابتغوا خدمة الوطن وانقلبوا عليه وخدموا أنفسهم، وبعضهم ابتغوا خدمة الدين وغلبهم الواقع وهدموا وطنهم، جميعهم أخذتهم النشوى إلى الثورة ضد بعضهم البعض، والثورة عجزت عن أن تكون فكرة، والفكرة عجزت أن تكون دولة ترعى القانون وتنضبط به.


محمد أمين بلقايم
الجزائر