لم يثبت يومًا أن البلدان التي داستها أقدام الغزاة الفرنسيين عرفت طريقها نحو التنمية، وبصفة خاصة القارة السمراء. منذ حملات نابوليون بونابارت التوسعية إلى تقسيم الكرة الأرضية بين بيكو الفرنسي وسايكس البريطاني، بعد مفاوضات سرية أثمرت ما يعرف بمعاهدة «سايكس بيكو»، وإلى اليوم لا زال الحال كما هو عليه في مستعمرات فرنسا السابقة.
فقد كانت فرنسا براغماتية حتى النخاع في استغلال الخيرات، وامتصاص دم مستعمراتها، سواء تعلق الأمر بالموارد الطبيعية أو البشرية. لم يك للإنسان الأفريقي أي اهتمام في قاموس الاحتلال الفرنسي؛ إذ بيع في سوق النخاسة الأمريكية، وعمل من أجل تدفئة المواطن الفرنسي في مناجم الفحم في ظروف لا إنسانية.
بفضل السواعد الأفريقية شيدت فرنسا كل بنياتها التحتية، وصروحها التي تفتخر بها اليوم، وبينها برج إيفل، بعدما خاضوا حروبها العالمية.
لم تعر أي اهتمام أيضًا للأرض التي تزود المفاعلات النووية باليورانيوم، ومعدن الحديد الذي يغذي مصانع رينو، وبيجو، وسيتروين، وشركات الأسلحة الموجهة نحو صدور «المتمردين» الأفارقة ضد أنظمة الحكم المتواطئة مع المستعمر، بالمادة الخام. كما هو الحال في النيجر وموريتانيا. فالزائر لهاتين الدولتين فقط، يكتشف أن الفرنسيين لا زالوا محتلين، عن بعد، ولم يبرحوا أماكنهم، ويدرك بما لا يدع مجالًا للشك، الوجه الحقيقي لحجم الفقر والجهل وانعدام البنى التحتية الذي عمل الاحتلال الفرنسي على ترسيخه في أفريقيا، ودفع الأفارقة إلى الهجرة، سواء كانت سرية أو معلنة.
احتلال بأقل تكلفة
استطاعت فرنسا التغلغل إلى أدغال أفريقيا بالعلم، حيث أرسلت باحثين أنثروبولوجيين، وإثنولوجيين، وعلماء اجتماع؛ لإجراء دراسات اجتماعية حول البنية والتركيبة الاجتماعية للمجتمع الأفريقي. نمط السلطة السائدة، مكامن القوة والضعف، وعلاقة الفرد بالنظام القبلي السائد، دراسات لم يك الغرض منها البحث العلمي وإغناء المكتبات الجامعية بأبحاث علمية حول تطور المجتمعات البدائية، بقدر ما كان تسهيل مهمة الغزو العسكري والسيطرة على شعوب القارة.
بمعنى آخر دراسات تخدم الكولونيالية. وهو ما حدث في حالة المغرب الذي كان احتلاله أقل تكلفة بالنسبة للفرنسيين من جيرانه، انطلاقًا من دراسات وأبحاث باحثين إثنولوجيين يبقى أبرزهم مولييراس صاحب كتاب «المغرب المجهول»، وروبير مونطاني وكتابه «البربر والمخزن»، إضافة إلى الإثنوغرافي إدموند دوتي.
لقد كان المارشال ليوطي، المقيم الفرنسي العام آنذاك، واضحًا حين قال: «دون شك أنت على حق، لكنني في المغرب من أجل إعادة صيانة سلطة السلطان في ربوع البلاد، ولا يمكنني أن أفعل غير ذلك». في رد على أحد جنرالاته الذي أشار عليه بتأسيس جمهورية تدين بالولاء لفرنسا في مدينة تازة بعد احتلالها.
اغتيال الفكر التحرري
في خضم هذا الوضع الاستعماري، تمدد الفكر التحرري الاشتراكي في أفريقيا، وانبثقت حركات التحرر من رحم المعاناة، ما أرغم فرنسا على منح مستعمراتها السابقة «الاستقلال الجزئي». لكن في المقابل عملت على صناعة أنظمة شمولية تتكفل بالخدمة بالنيابة عن الوجود الفرنسي، أبطالها نخبة من المثقفين من أبناء الوجهاء وعملاء الاحتلال، درست وتخرجت من المعاهد الباريسية، وتكلفت بالاستعمار بالوكالة، السواد الأعظم منها كان ذا تكوين عسكري يدين بالولاء للمستعمر. في ظل هذا الواقع، برزت الحركات الوطنية المطالبة بالاستقلال التام والقطيعة التامة مع فرنسا وسياستها الكولونيالية وأتباعها في السلطة، من أبناء الفقراء الذين تشبعوا بالفكر الماركسي اللينيني من معتنقي المذهب الاشتراكي.
ففي بوركينا فاسو، مثلًا، عملت فرنسا على اغتيال الرئيس الشاب، توماس سانكارا، أو جيفارا أفريقيا كما يحلو للبعض تسميته، لأنه ببساطة نهج سياسة تنموية مبنية بسواعد أبناء البلد. سياسة بفضلها استطاع الشعب البوركينابي، في ظرف وجيز، أن يأكل مما تزرع أياديه، محققًا اكتفاءً ذاتيًّا على المستوى الغذائي، ويلبس مما تصنع أنامله، مستغنيًا عن بنطال الجينز وماركات لاكوست الغربية.
فكر تحرري تدفق إلى عروق الأفارقة وأنعش دماءهم بعدما جفف المستعمر ينابيعهم بفعل الاستغلال المفرط ونهب الثروات الطبيعية، سرعان ما أصبح سرابًا، بعد دعم فرنسا للانقلابات والاغتيالات في القارة السمراء، وترسيخ أنظمة حكم تابعة خاضعة ومنبطحة، عمرت لعقود على رقاب الأفارقة، في الزايير، والنيجر، وموريتانيا، والغابون، وساحل العاج، وبوركينافاسو… وغيرها من المستعمرات السابقة، حتى وإن تطلب ذلك حروبًا أهلية كما حدث في ليبيريا ورواندا.
القطيعة مع الثقافة الفرنسية
الدارس لتاريخ الحروب، بعد الحربين العالميتين، والسابر لأغوار كل القلاقل وبؤر التوتر في العالم، بصفة أخص في أفريقيا، حتمًا سيكتشف بصمات فرنسا حاضرة فيها. فالحرب الأهلية بين الأخوة الأعداء، في رواندا، والقواعد العسكرية الفرنسية المنتشرة في غرب أفريقيا ووسطها، شاهدة على سياسة فرنسا، التي تقتات على عدم الاستقرار.
فرنسا الاستعمار البشع الذي لا يعرف الرحمة، لا زالت تحتفظ بمحفظة الأموال الأفريقية، من خلال سك العملات، وهو احتلال اقتصادي غير مباشر، يدر على الخزينة الفرنسية مليارات الدولارات سنويًّا. لكن النموذج الأنغلوفوني، أو الدول الناطقة بالإنجليزية، كان أقل ضررًا، على الأقل اقتصاديًّا، ما دام الاحتلال شرًا لا بد منه. إذ أصبحت اليوم، بعض الدول الأفريقية مصنعة وسائرة في طريق النمو، وهو ما دفع البعض إلى إعلان القطيعة مع ثقافة المستعمر الفرنسي، كما هو الشأن بالنسبة لدولة رواندا، التي ضمدت جراحها وتجاوز فيها الأخوة الأعداء، التوتسي والهوتو، كل الخلافات، وانغمس الجميع في الولاء للدولة بدل القبيلة، وأصبحت اليوم، بفضل سياسة تنموية واستراتيجات بعيدة المدى، دولة رائدة في أفريقيا، بعد الطلاق التام والمعلن، من الثقافة الفرنسية والاستدارة 180 درجة نحو الثقافة الأنكلوفونية.
لا شك أن فرنسا لم تك يومًا صديقة للشعوب التي تستعمرها، ولم تك يومًا رحيمة مع الأرض التي تحتلها، ولن تكون كذلك في المستقبل القربب ولا البعيد، خاصة في أفريقيا؛ لأن فرنسا بدون خيرات أفريقيا ستعود إلى عصر ما قبل الثورة الصناعية. فعدم الاستقرار في ليبيا، والصراع على السلطة في تونس، والبحث عن إعادة سيناريو العشرية السوداء في الجزائر، ودعم الفصائل المتناحرة في مالي وغيرها من القلاقل وبؤر التوتر، تخدم مصالح فرنسا الاقتصادية، وتبقى تلكم أبرز وجوه الاحتلال الفرنسي.
اليوم على فرنسا أن تزيح القناع عن شعارها الثلاثي: حرية، عدالة، إخاء؛ لأن المستعمرات السابقة لم تنعم بأي منها، ولا زالت سياستها كما هي رمزًا لتجهيل الشعوب الأفريقية وتفقيرها من أجل أن تحيا فرنسا فقط.

بفضل السواعد الأفريقية شيدت فرنسا كل بنياتها التحتية، وصروحها التي تفتخر بها اليوم، وبينها برج إيفل، بعدما خاضوا حروبها العالمية.
لم تعر أي اهتمام أيضًا للأرض التي تزود المفاعلات النووية باليورانيوم، ومعدن الحديد الذي يغذي مصانع رينو، وبيجو، وسيتروين، وشركات الأسلحة الموجهة نحو صدور «المتمردين» الأفارقة ضد أنظمة الحكم المتواطئة مع المستعمر، بالمادة الخام. كما هو الحال في النيجر وموريتانيا. فالزائر لهاتين الدولتين فقط، يكتشف أن الفرنسيين لا زالوا محتلين، عن بعد، ولم يبرحوا أماكنهم، ويدرك بما لا يدع مجالًا للشك، الوجه الحقيقي لحجم الفقر والجهل وانعدام البنى التحتية الذي عمل الاحتلال الفرنسي على ترسيخه في أفريقيا، ودفع الأفارقة إلى الهجرة، سواء كانت سرية أو معلنة.
احتلال بأقل تكلفة
استطاعت فرنسا التغلغل إلى أدغال أفريقيا بالعلم، حيث أرسلت باحثين أنثروبولوجيين، وإثنولوجيين، وعلماء اجتماع؛ لإجراء دراسات اجتماعية حول البنية والتركيبة الاجتماعية للمجتمع الأفريقي. نمط السلطة السائدة، مكامن القوة والضعف، وعلاقة الفرد بالنظام القبلي السائد، دراسات لم يك الغرض منها البحث العلمي وإغناء المكتبات الجامعية بأبحاث علمية حول تطور المجتمعات البدائية، بقدر ما كان تسهيل مهمة الغزو العسكري والسيطرة على شعوب القارة.
بمعنى آخر دراسات تخدم الكولونيالية. وهو ما حدث في حالة المغرب الذي كان احتلاله أقل تكلفة بالنسبة للفرنسيين من جيرانه، انطلاقًا من دراسات وأبحاث باحثين إثنولوجيين يبقى أبرزهم مولييراس صاحب كتاب «المغرب المجهول»، وروبير مونطاني وكتابه «البربر والمخزن»، إضافة إلى الإثنوغرافي إدموند دوتي.
لقد كان المارشال ليوطي، المقيم الفرنسي العام آنذاك، واضحًا حين قال: «دون شك أنت على حق، لكنني في المغرب من أجل إعادة صيانة سلطة السلطان في ربوع البلاد، ولا يمكنني أن أفعل غير ذلك». في رد على أحد جنرالاته الذي أشار عليه بتأسيس جمهورية تدين بالولاء لفرنسا في مدينة تازة بعد احتلالها.
اغتيال الفكر التحرري
في خضم هذا الوضع الاستعماري، تمدد الفكر التحرري الاشتراكي في أفريقيا، وانبثقت حركات التحرر من رحم المعاناة، ما أرغم فرنسا على منح مستعمراتها السابقة «الاستقلال الجزئي». لكن في المقابل عملت على صناعة أنظمة شمولية تتكفل بالخدمة بالنيابة عن الوجود الفرنسي، أبطالها نخبة من المثقفين من أبناء الوجهاء وعملاء الاحتلال، درست وتخرجت من المعاهد الباريسية، وتكلفت بالاستعمار بالوكالة، السواد الأعظم منها كان ذا تكوين عسكري يدين بالولاء للمستعمر. في ظل هذا الواقع، برزت الحركات الوطنية المطالبة بالاستقلال التام والقطيعة التامة مع فرنسا وسياستها الكولونيالية وأتباعها في السلطة، من أبناء الفقراء الذين تشبعوا بالفكر الماركسي اللينيني من معتنقي المذهب الاشتراكي.
ففي بوركينا فاسو، مثلًا، عملت فرنسا على اغتيال الرئيس الشاب، توماس سانكارا، أو جيفارا أفريقيا كما يحلو للبعض تسميته، لأنه ببساطة نهج سياسة تنموية مبنية بسواعد أبناء البلد. سياسة بفضلها استطاع الشعب البوركينابي، في ظرف وجيز، أن يأكل مما تزرع أياديه، محققًا اكتفاءً ذاتيًّا على المستوى الغذائي، ويلبس مما تصنع أنامله، مستغنيًا عن بنطال الجينز وماركات لاكوست الغربية.
فكر تحرري تدفق إلى عروق الأفارقة وأنعش دماءهم بعدما جفف المستعمر ينابيعهم بفعل الاستغلال المفرط ونهب الثروات الطبيعية، سرعان ما أصبح سرابًا، بعد دعم فرنسا للانقلابات والاغتيالات في القارة السمراء، وترسيخ أنظمة حكم تابعة خاضعة ومنبطحة، عمرت لعقود على رقاب الأفارقة، في الزايير، والنيجر، وموريتانيا، والغابون، وساحل العاج، وبوركينافاسو… وغيرها من المستعمرات السابقة، حتى وإن تطلب ذلك حروبًا أهلية كما حدث في ليبيريا ورواندا.
القطيعة مع الثقافة الفرنسية
الدارس لتاريخ الحروب، بعد الحربين العالميتين، والسابر لأغوار كل القلاقل وبؤر التوتر في العالم، بصفة أخص في أفريقيا، حتمًا سيكتشف بصمات فرنسا حاضرة فيها. فالحرب الأهلية بين الأخوة الأعداء، في رواندا، والقواعد العسكرية الفرنسية المنتشرة في غرب أفريقيا ووسطها، شاهدة على سياسة فرنسا، التي تقتات على عدم الاستقرار.
فرنسا الاستعمار البشع الذي لا يعرف الرحمة، لا زالت تحتفظ بمحفظة الأموال الأفريقية، من خلال سك العملات، وهو احتلال اقتصادي غير مباشر، يدر على الخزينة الفرنسية مليارات الدولارات سنويًّا. لكن النموذج الأنغلوفوني، أو الدول الناطقة بالإنجليزية، كان أقل ضررًا، على الأقل اقتصاديًّا، ما دام الاحتلال شرًا لا بد منه. إذ أصبحت اليوم، بعض الدول الأفريقية مصنعة وسائرة في طريق النمو، وهو ما دفع البعض إلى إعلان القطيعة مع ثقافة المستعمر الفرنسي، كما هو الشأن بالنسبة لدولة رواندا، التي ضمدت جراحها وتجاوز فيها الأخوة الأعداء، التوتسي والهوتو، كل الخلافات، وانغمس الجميع في الولاء للدولة بدل القبيلة، وأصبحت اليوم، بفضل سياسة تنموية واستراتيجات بعيدة المدى، دولة رائدة في أفريقيا، بعد الطلاق التام والمعلن، من الثقافة الفرنسية والاستدارة 180 درجة نحو الثقافة الأنكلوفونية.
لا شك أن فرنسا لم تك يومًا صديقة للشعوب التي تستعمرها، ولم تك يومًا رحيمة مع الأرض التي تحتلها، ولن تكون كذلك في المستقبل القربب ولا البعيد، خاصة في أفريقيا؛ لأن فرنسا بدون خيرات أفريقيا ستعود إلى عصر ما قبل الثورة الصناعية. فعدم الاستقرار في ليبيا، والصراع على السلطة في تونس، والبحث عن إعادة سيناريو العشرية السوداء في الجزائر، ودعم الفصائل المتناحرة في مالي وغيرها من القلاقل وبؤر التوتر، تخدم مصالح فرنسا الاقتصادية، وتبقى تلكم أبرز وجوه الاحتلال الفرنسي.
اليوم على فرنسا أن تزيح القناع عن شعارها الثلاثي: حرية، عدالة، إخاء؛ لأن المستعمرات السابقة لم تنعم بأي منها، ولا زالت سياستها كما هي رمزًا لتجهيل الشعوب الأفريقية وتفقيرها من أجل أن تحيا فرنسا فقط.

عبداتي فوداش
0 تعليق على موضوع : هل فرنسا هي رمز التجهيل والتفقير؟ // بقلم : عبداتي فوداش
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات