لكل زمان دولة ورجال، ولكل دولة ظروفها ومراحلها ولكل مرحلة ميزاتها وأدواتها. هذا بالعموم، وبالخصوص، لم يبق حزب أو تيار عند العرب في الداخل، حقيقيا كان أم وهميا، إلا ورفع عقيرته بالاحتجاج بأن إسرائيل دخلت مرحلة جديدة مع إقرار "قانون القومية اليهودية" في التاسع عشر من تموز الماضي.
لكن هذه القدرة على الوصف والتشخيص بما تعكسه من جهد تحليلي ونقدي، لم تغادر ساحة التوصيف والتصريح النظري إلى ساحة العمل الميداني والتطبيق الفعلي المناسب لحجم التوصيف النظري. ويبدو أن هذا القصور أو التقاعس في العبور من التوصيف النظري إلى الترجمة العملية، ناجم لدى البعض على الأقل، من السعي لتجنب استحقاقات التوصيف النظري على أرض الواقع، كي لا يطالب صاحب التشخيص أو التوصيف بتطبيق هذا الاستحقاق، خصوصا وأن تمرير القانون، جاء على غفلة من 13 نائبا عربيا في الكنيست، فاتهم في حمى السعي وراء إنجاز مهما كان، أن تفاهماتهم مع الحريديم تبخرت كليا.
ومع أنه كان قد بقي أكثر من 48 ساعة بين إعلان النائب الحريدي أوري ماخليف أن الحريديم، وعلى إثر جلسة طارئة مع نتنياهو في 16 تموز، لن يصوتوا ضد "قانون القومية"، وبين عملية التصويت نفسها، أي بعد منتصف الليل في الساعات الأولى من التاسع عشر من تموز، لم يقم نواب كتلة المشتركة، بخطوة تحذير واحدة من تبعات سن القانون، ولا حتى عقد مؤتمر صحافي في نفس اليوم وقبل ساعات من سن القانون.
وبالرغم من كل ذلك، ظل عند المواطن العربي أمل، حتى بعد إقراره والإجماع بأننا أمام مرحلة جديدة، أن تترجم هذه التوصيفات لأفعال أو رد بفعل بقدر حجم أثر الفعل الأول (إقرار القانون) ولكن باتجاه معاكس.
لم يأت رد الأحزاب البرلمانية على قدر الفعل ولا اقترب حتى من توصيفاتها التي وضعتها هي وليس أحد غيرها لما حدث. بل إنها بالكاد اعترفت بوجوب دراسة الخطوات القادمة بما يتعلق بجدوى البقاء في الكنيست أو العمل البرلماني، والتحذير بخطابات نارية مما هو آت، معولة على نشاط دولي تبين أنها لا تجيد حتى كيفية إدارته وضبطه بشكل موحد.
واليوم، يبدو وللأسف الشديد، أن كل هذا كان مجرد مناورات لامتصاص نقمة الناس والتنفيس عنهم، كما حدث في مظاهرة تل أبيب، وفي المماطلة في إقرار إضراب عام، وكل ذلك وسط نشر خطوط حمراء سميكة قدر الإمكان في وجه كل رأي نادى بالاستقالة من الكنيست (ولو من الفترة المتبقية من الكنيست الحالية فقط، لحين دراسة ما حدث وترتيب الأوراق مستقبلا). وقد أشرت في مقال سابق، إلى أن الاستقالة كان ينبغي أن تتم مع إقرار القانون، أما بعد مروره، فكان طرح الأمر لا يخلو من مجرد مزايدات، في ذلك الوقت، خاصة بعد أن عدل مثقفون بيانا لهم من دعوة النواب العرب للاستقالة من الكنيست في نسخته الأولى، إلى تجميد عضوية الكنيست في بيان ثان حمل توقيع نائبين عربيين. وكنت أشرت في حينه إلى أنه لا يوجد شيء من هذا القبيل في النظام السياسي الإسرائيلي، وأن ما هو متاح هو مقاطعة جلسات الكنيست وعملها، مع سلسلة خطوات مرافقة.
ومع عودة الكنيست لعملها وافتتاح دورتها الشتوية، كان قد ذاب الثلج وبان المرج. فقد تبين أن موافقة الحركة الإسلامية وأحمد طيبي على مقترح التجمع بمقاطعة أعمال الدورة الشتوية للكنيست (وفق إعلان نواب من التجمع في أكثر من مناسبة)، لم يكن حقيقيا ولم يطبق على أرض الواقع. في المقابل فإن قرار المقاطعة الذي لوح به التجمع نفذ بشكل جزئي، بل لقد تم إصدار بيان المقاطعة في ساعات متأخرة، وفقط بعد أن أدت النائب نيفين أبو رحمون قسم الولاء، أي بعد مشاركة جزئية في الجلسة الافتتاحية عبر خطابها الأول، علما بأنه كان يمكن تأجيل القسم والخطاب على الأقل إلى ما بعد فترة مقاطعة الجلسات المعلنة.
والواقع أن خطوة التجمع حتى، في سياقها كما تمت الأسبوع الماضي، ظلت تحمل دلالات خاصة أهمها (وهو أقصى ما هو متاح عمليا للأحزاب العربية في الكنيست) إعلان موقف معارض يترجم فعليا أيضا بأنه ليس كل ما تقوم به إسرائيل مفهوم ضمنا أو مقبول بفعل التسليم بقواعد اللعبة البرلمانية، لأن التجمع جاء أصلا لكسر هذه القواعد وليس تشريعها، أو التحرك والعمل وفق قواعدها المبنية على صفقات لا تخترق السقف المتاح، وقد تجلى كسر هذه القواعد مثلا في مشاركة حنين زعبي، ومن ثم لاحقا باسل غطاس في أسطولين للحرية لكسر الحصار عن غزة، وزيارة عوائل شهداء القدس.
خلاصة القول، إن من يقول إن إسرائيل منحتنا عبر إقرار القانون ورقة مكتوبة بالأسود والأبيض تقر بعنصرية إسرائيل وقانونها، عليه ألا يتغافل عن حقيقة أن البقاء في الكنيست والعمل بنفس الأدوات القديمة، التي اعتمدت في المرحلة السابقة، لن يؤتي ثمارا نافعة عدا عن أنه يمنح إسرائيل أيضا صك براءة وسترة واقية تحميها من المقاطعة والتنديد الدوليين، لأن أصحاب الشأن (العرب في إسرائيل في هذه الحالة) منخرطون بنظامها البرلماني بمجرد بقائهم فيه مهما انتقدوه.
كما أنه لا يمكن بعد القول بدخول مرحلة جديدة، الحديث عن تثبيت نضال برلماني تقليدي (كما هو الحال اليوم) في مرحلة جديدة قد يكون جني أولى ثمارها قريبا، بإقصاء من يعارض القانون فعلا ويرفض الاعتراف بإسرائيل دولة القومية اليهودية. المرحلة الجديدة تلزم من يتحدث عن بدئها اجتراح أدوات جديدة مناسبة لمواجهتها واستعدادا شعبيا أيضا لما هو آت، وليس فقط الإعلان عن بدئها وكفى الله المؤمنين القتال.
0 تعليق على موضوع : مرحلة جديدة بنفس الأدوات القديمة! / بقلم : نضال محمد وتد
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات