لاخلاف فى أن انسحاب دولة عظمى من مؤسسة دولية كالمجلس الدولى لحقوق الإنسان من شأنه الإخلال بدور هذه المؤسسة فى أداء مهمتها فى المجتمع الدولى والإضعاف من التزام الدول الأطراف فى الالتزام بقراراتها. وقد يثير التأمل فى المواقف العديدة للولايات المتحدة من قضايا هذا المجلس التساؤل حول ما كان لأمريكا من دور إيجابى أو منصف فى مجال قضايا حقوق الإنسان. فإذا كانت هذه المواقف سلبية فى هذا الصدد فقد يكون مثل هذا الانسحاب أخف ضررًا على نشاط المجلس من بقائها عضوًا به، وشلِّه عن أداء دوره.
وإذا ألقينا نظرة شاملة على مسلك الولايات المتحدة منذ نشأتها فى مجال حقوق الإنسان تكشف لنا ما احتوى عليه هذا المسلك من إهدار لآدمية الإنسان. فليس بخافٍ فى الآونة الحالية ما سيصيب العالم من كوارث حالا ومستقبلا من النشاطات العديدة الضارة للبيئة، ولذلك اجتمعت الدول مرارًا للبحث عن ضرورة الحد من هذه الأضرار كما هو معلوم قبل أن تتفاقم وتعصف بمصير البشرية جمعاء. وقد تم عقد مؤتمر دولى مصيرى فى الآونة الأخيرة لهذا الغرض غير أن الولايات المتحدة رفضت الاشتراك فيه خوفا من الإضرار بنشاطها الصناعى الملوث للبيئة. كما انسحبت الولايات المتحدة من المحكمة الجنائية الدولية بعد إسهامها فى إنشائها فى أوائل هذا القرن خشية تقديم مرتكبى جرائم الحرب الأمريكيين بالعراق وفى غيرها أمام هذه المحكمة، خاصة وأن جرائم الحرب لا تسقط بمضى المدة.
وليس بمستغرب أن تواصل الولايات المتحدة الانسحاب من كل المنظمات الحقوقية والثقافية الدولية الساعية إلى إنقاذ شعوب العالم من التخلف والدمار المادى أو المعنوي. وقد يصل الأمر إلى الانسحاب من الأمم المتحدة نفسها.
كذلك من أهم الأدوار التى حرصت الولايات المتحدة على أدائها هى تمكين إسرائيل من الاستيلاء على أراضى فلسطين، والتخلص من شعبها لإحلال يهود العالم محله، فقد شهدنا الولايات المتحدة تتخذ مواقف مخالفة لمبادئ القانون الدولى الأساسية والمواثيق الدولية الملزمة غير عابئة بالرأى العام العالمى وبالنتائج المروعة لتلك المواقف التى تشكل فى حقيقة الأمر جريمة إبادة جماعية بطيئة ناجمة عن القتل الجماعى العشوائى للرجال والنساء والأطفال وحرمانهم من مصادر المأكل والمشرب بل وهدم منازلهم وغير عابئة كذلك بأن مثل تلك الأفعال تفاقم ظاهرة الإرهاب فى المجال الدولي. ويجدر التذكرة كذلك بدور الولايات المتحدة فى إنزال الخراب بالعراق وإهدار آدمية شعبه والسعى لتقسيمه وتفتيته كبداية لتفتيت باقى شعوب العالم العربى الأخرى ومنها الشعب المصرى بمشاركة الإخوان المسلمين. كذلك يجب ألا ينسينا مرور الزمن ما حاق بالشعب اليابانى من دمار وخراب إثر إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما ونجازاكي. ويكفى مراجعة سريعة لقرارات مجلس الأمن الدولى خلال سبعة عقود ماضية للتحقق من مخالفات الولايات المتحدة الجسيمة للمبادئ الأساسية للقانون الدولى والأحكام الآمرة للمواثيق الدولية، مما ينفى عن تلك المبادئ والمواثيق أية مصداقية.
وبإلقاء نظرة على المستقبل يتبين لنا خطورة النتائج التى يقود إليها مثل هذا المسلك بالنسبة للعالم أجمع. ويثور السؤال حول من يملك تصحيح هذا المسلك والحد من عواقبه الوخيمة. وقد يتسنى لبعض الدول الكبرى التخفيف من وطأة مسلك الولايات المتحدة الضار بها كما قد لا تتوانى المجموعة الأوروبية عن اتخاذ إجراءات مضادة حماية لمصالحها. غير أن هناك من الآثار الناجمة عن مسلك الولايات المتحدة ما يمس حياة الكون بأسره ومن ثم لن يتيسر لدولة أو مجموعة من الدول التصدى له، ومن أهم الأمثلة على ذلك مسلك الولايات المتحدة بشأن تدهور البيئة ومسلكها بشأن تجارة السلاح على المستوى الدولى والمزايدة فيه وتعزيزها.
لا شك أن أول من يملك تصحيح المسلك بالنسبة لمثل هذه الحالات هو شعب الدولة الأمريكية ذاته وقد بدأت العديد من فئات هذا الشعب رفض أسلوب الرئيس الأمريكى الجائر فى العديد من الأمور. غير أنّه من الصعب الركون إلى جهود الشعب الأمريكى وحده للقيام بتعديل مسلك حكومته، وذلك بسبب ما لأصحاب القوة الاقتصادية والرجعية من مصالح. إن العديد من الأخطار التى تهدد العالم هى أشبه بالقنبلة الوقتية بل والذرية التى لا تحتمل الانتظار ومن ثمَّ فإنَّ العبء الرئيسى يقع لا محالة فى نهاية الأمر على دول العالم أجمع للتكاتف ضد المسلك الأمريكى ومثال ذلك ما تم بالفعل من الموقف العالمى بشأن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس. وتزداد ضرورة هذا التكاتف مع ازدياد الخطر كما هو الحال بالنسبة للعواقب الرهيبة لتدهور البيئة التى لن تنجو منها دولة. كذلك يتعين عدم الاستهانة بخطورة المخالفات الجسيمة للمبادئ المستقرة فى القانون الدولى والاحكام الملزمة للمواثيق الدولية على كل دول العالم بما فيها الدول التى لم يمسها ضررٌ بعد، ويجدر التذكرة فى هذا المقام بالقصة الشهيرة فى كليلة ودمنة التى تتلخص فى مقولة الثور الأحمر: قًتلت يوم قتل الثور الأبيض.
ولا مغالاة فى أن نؤكد بصفة خاصة وجوب تضامن الدول عن طريق الأمم المتحدة أو غيرها لوقف الإبادة الجماعية البطيئة للشعب العربى الفلسطيني، إذ فضلا عن أن ذلك يشكل ما يعرف بجريمة الجرائم الدولية فإنه يفتح الباب لتكرار ذلك فى أماكن أخرى فى العالم. ولا يجهل العالم ما قامت به تركيا من إبادة للأرمن والتى شكلت سابقة سهلت تكرارها بعد ذلك كما شهدنا بالنسبة لإبادة مدن بأسرها فى البوسنة. وكان من أهم الدوافع لارتكاب هذه الإبادة اعتبار سكان هذه المدن من أصول تركية، كما صرح بذلك من قدموا للمحاكمة من جنود الصرب أمام المحكمة الدولية لجرائم الحرب.
لقد أصبح العالم فى الحقيقة قرية كونية تشكل جسدًا واحدًا يمكن تشبيهه بجسم الإنسان الذى يؤدى إصابة أحد أعضائه إلى خلل فى الجسد كله.
0 تعليق على موضوع : الانسحاب الأمريكى من مجلس حقوق الإنسان فى السياق التاريخى د. فؤاد عبد المنعم رياض
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات