المرآة التي تعكس أوجه الجمال في هذا العالم هي بالضبط مجموع الكلمات التي تسمى أدبا، هي النّسق الذي نرتب به الأشياء حين نرغب في نقلها إلى الآخر بما نتقنه من لغة، ولكنه ليس بالكلام العادي، بل «ما فوق العادي»، بانتقاء الكلمات، وتنسيقها كما تنسّق الزهور، كما تُنَسّق الألوان على لوحة، على قطعة قماش، كما تنسق المرأة ثيابها فتبدو جميلة مع أنّها بغير ثياب قد تكون منفِّرة. قد يكون هذا هو الأدب، وقد يكون شيئا آخر، قد يكون الرؤية المقرّبة للشيء، كمن يدخل في غابة كثيفة، تحيط بها الأشباح، والخرافات المرعبة فيما في قلبها يختفي قصر الأميرة النائمة…
هل يصف أو يناقش؟ أم أنّه أكبر من ذلك، فهو يعيد بناء الأشياء ويعطيها صفات جديدة ومفاهيم غير التي نعرفها؟ فبإمكان الأدب أن يجعل الحيوانات تحكي، وتقول شعرا، وتخرج الحكمة من أفواهها ومع أن الأمر لا يُصَدَّق إلا أننا نصدقه ونستدل به على كلامنا، كأن نقول أن « الثعلب إن لم يبلغ العنب يقول إنه حصرم»… بعض الكتب نمنحها سمة الأدب، وبعضها لا، نحن أيضا نصنف النصوص حسب قدرتها على اختطاف مشاعرنا دفعة واحدة، حسب دروب السرد التي نسلكها مع الكاتب عبر عمران نصه، وتقديم أبطاله أو رؤاه المختلفة لحياة نتقاسمها معا لكنه يُعبّر عنها بشكل أكثر بلاغة منا، يرتقــــي الأدب درجات عن مستوانا الحكائي، لهذا ما يدهشنا في مستويات عمرية باكرة يتوقف عن إدهاشنا حين نبلغ سن النضج، وكلما تقدم بنا العمر تشدّدنا في خياراتنا وقراءاتنا وكأن ذائقتنا أيضا تكبر في العمر وتزداد نضجا…!
هندسة المكان المتخيَّل لا تشبه الواقع في شيء، لأنها تبنى وفق معطيات يعرفها الكاتب وحده، كل شيء مرتبط بالفكرة التي تنمو في مخيلته وتنقسم بشكل أوتوماتيكي بين الأعمال والأحداث وبين الأشياء التي تؤثث الفضاء المكاني ويلعب الوصف دوره حسب «جيرار جنيت» في منح الروح لتلك الأشياء بمد جسور بين النصوص.
لا شيء يشبه الأدب وكل شيء يشبهه، نتاج يحمل ما نراه ونعيشه، يترجم أقوالنا وخلافاتنا واختلافاتنا ومشاعرنا ولكنه يظل صنيع المخيلة.
يسأل الكاتب هل أنت البطل في نصك؟
فيرتعب من تلك الإسقاطات البسيطة لنصه، وقد حمّله الكثير من الأفكار والقراءات والملخصات التي جمعها من أبحاث كثيرة في الماضي والحاضر، يطرح الكثير من الأسئلة الصعبة ويقدم إجابات لا حصر لها ثم يأتي من ينسف جهده بتقزيمه بسؤال بائس: هذا أنت وأنت لم تكتب سوى نفسك؟
ولعلّه كتب نفسه، لكن في خلال عملية الكتابة وطرح ما لديه من الأفكار ومناشقتها هل يظل النص انعكاسا لشخصه؟
نعرف أن الرسام قد يستسلم لسطوة لون واحد أكثر من باقي الألوان وهويرسم لوحته، قد يذهب دوما في اتجاه واحد في خيارات خطوطه وألوانه ولكن الكاتب لديه مجسّم وهمي في رأسي وهو ينقله عبر فترات زمنية مختلفة خلال سنة أو سنتين أو ربما عشر سنوات إلى مخطوطه باختيار ما أمكن من التعابير المناسبة لنصه. حتى وإن كان النّص مجرد لعبة كلمات، تحتاج لتركيز وترتيب صارم لإنجاحها إلا أن الفكرة لا تقبل بأن يكون ذلك التريب صحيحا من الباب اللغوي فقط، من الباب البلاغي، إذ يلعب الزمن دورا مهما في التحكم في الأنساق أيضا…
نص اليوم ليس بالنص الذي كتب منذ عشرين سنة. هناك كُتّاب ماتوا بعد عشرين عملا من تجربتهم الأدبية، هناك من ماتوا بعد كتاب واحد، وهناك من قاموا من توابيتهم بعد نصف قرن من الموت الإجباري لأن نصوصهم خالفت قواعد الزمن وتخطت ذائقة عصرهم. هناك من كتبوا لقارئ عاصروه وذهبوا في صمت بعد أن عاشوا التهميش والإهمال والنبذ ولكنهم نالوا أمجادا لا نهاية لها بعد قرن من الزمن، وإن لم تجب نصوصهم على الأسئلة المعقدة حول سر نجاحهم المتأخر وفشلهم الآني خلال فترة حياتهم فهذا يعني حتما أن ما احتوته كتبهم ظل خارج اهتمامات القارئ خلال حقبتهم، وأن ما أُثير من أفكار ونوقش في تلك المتون الحكائية كاشف بما يكفي على أن الأدب قائم في الغالب على ما يناقشه لا على ما يصفه.
وأحب أن أذكر هنا نموذج « أنا كارينينا « لليو تولستوي، الرواية التي حمّلها عصارة أفكاره وختم بها تجربته الأدبية والتي عبَرت كل الحدود بين الأمم والأديان والثقافات، فوجد فيها المتدين غايته والملحد غايته، ورغم أن التدين أنواع والإلحاد أنواع أيضا إلا أن النص الذي أثار جدلا كبيرا وطويلا مقارنة بكل الأجيال التي قرأته انتهى انتصارا للمؤسسة الدينية عند البعض وانتهى عكس ذلك عند البعض الآخر، ذلك أن المناقشة التي أثارها تولستوي تولاها من الطرفين وبحث في العيوب والأسباب والدوافع والغايات عند الطرفين. ولن نعرف أبدا هل كتب ما خلص إليه من أفكار أم أنه فتح مناقشتها عند كتابته لتلك الرواية، وأن اتساع تجربته وفيض ما بلغه من حكمة هو الذي التصق بذلك الوصف البديع لشخصياته وأمكنته وبث فيها ولع الحب وشغف الحياة بما فيهما من مبالغات في لحظات الصراع الحاسمة.
أما السؤال الذي يبقى عالقا فهو مِمَّ جرّد الكاتب نصه وماذا أضاف إليه مقارنة مع الوقائع التي أوحت إليه بكتابته؟ لأن مرجعية النص دوما واقعية حتى وإن خرج إلينا بعباءة مختلفة، ويبدو أن براعة الكاتب تكمن هنا، حين يبرع في الوصف ويناقش بذكاء، أو لنقل أنه يحقق مآربه حين يعرف قارئه جيدا، إذ يبدوأحيانا أن سطوة فكرة « المثالية» وكتابة نص أدبي بمواصفات ترضي النقاد غالبا ما تنتج نصوصا فاشلة، فالنّاقد أيضا ابن عصره وبيئته ولا يمكنه أن يكون مقياسا جيدا للأدب، ما يُبقي فكرة الحكم على أي نص أدبي مجرّد فكرة نسبية…
حتى حين ينساق الناقد خلف نظرية معينة ويقسم النص إلى عناصر يخضعها لمنهجه النقدي، تبقى محتويات النص في ترابطها هي ما يؤثر في القارئ، وهي ما يمسى أدبا، أمّا تفكيكه وعرضه قطعة قطعة كأنه محرك سيارة مثلا فهذا ما لم يقنعني كقارئة على الأقل، وحتى حين أنجزت أطروحتي، منصاعة لنظام البحث الأكاديمي، كنت على قناعة أن النصوص التي كانت بين يدي لا يجوز أن نخلع عنها وقارها الأدب ونتأملها عارية أمامنا مفرغة من روحها الفكرية والإيديولوجية وغيرها…
لطالما اقتعنت أن الأدب هو المقياس الحقيقي لأي مجتمع ومن خلاله يمكننا أن نلمس مستوى الشعوب على السلم الحضاري، لهذا رجحت دوما أن الأدب هو مقترح جمالي لإصلاح ما أفسده الإنسان.
هل يصف أو يناقش؟ أم أنّه أكبر من ذلك، فهو يعيد بناء الأشياء ويعطيها صفات جديدة ومفاهيم غير التي نعرفها؟ فبإمكان الأدب أن يجعل الحيوانات تحكي، وتقول شعرا، وتخرج الحكمة من أفواهها ومع أن الأمر لا يُصَدَّق إلا أننا نصدقه ونستدل به على كلامنا، كأن نقول أن « الثعلب إن لم يبلغ العنب يقول إنه حصرم»… بعض الكتب نمنحها سمة الأدب، وبعضها لا، نحن أيضا نصنف النصوص حسب قدرتها على اختطاف مشاعرنا دفعة واحدة، حسب دروب السرد التي نسلكها مع الكاتب عبر عمران نصه، وتقديم أبطاله أو رؤاه المختلفة لحياة نتقاسمها معا لكنه يُعبّر عنها بشكل أكثر بلاغة منا، يرتقــــي الأدب درجات عن مستوانا الحكائي، لهذا ما يدهشنا في مستويات عمرية باكرة يتوقف عن إدهاشنا حين نبلغ سن النضج، وكلما تقدم بنا العمر تشدّدنا في خياراتنا وقراءاتنا وكأن ذائقتنا أيضا تكبر في العمر وتزداد نضجا…!
هندسة المكان المتخيَّل لا تشبه الواقع في شيء، لأنها تبنى وفق معطيات يعرفها الكاتب وحده، كل شيء مرتبط بالفكرة التي تنمو في مخيلته وتنقسم بشكل أوتوماتيكي بين الأعمال والأحداث وبين الأشياء التي تؤثث الفضاء المكاني ويلعب الوصف دوره حسب «جيرار جنيت» في منح الروح لتلك الأشياء بمد جسور بين النصوص.
لا شيء يشبه الأدب وكل شيء يشبهه، نتاج يحمل ما نراه ونعيشه، يترجم أقوالنا وخلافاتنا واختلافاتنا ومشاعرنا ولكنه يظل صنيع المخيلة.
يسأل الكاتب هل أنت البطل في نصك؟
فيرتعب من تلك الإسقاطات البسيطة لنصه، وقد حمّله الكثير من الأفكار والقراءات والملخصات التي جمعها من أبحاث كثيرة في الماضي والحاضر، يطرح الكثير من الأسئلة الصعبة ويقدم إجابات لا حصر لها ثم يأتي من ينسف جهده بتقزيمه بسؤال بائس: هذا أنت وأنت لم تكتب سوى نفسك؟
ولعلّه كتب نفسه، لكن في خلال عملية الكتابة وطرح ما لديه من الأفكار ومناشقتها هل يظل النص انعكاسا لشخصه؟
نعرف أن الرسام قد يستسلم لسطوة لون واحد أكثر من باقي الألوان وهويرسم لوحته، قد يذهب دوما في اتجاه واحد في خيارات خطوطه وألوانه ولكن الكاتب لديه مجسّم وهمي في رأسي وهو ينقله عبر فترات زمنية مختلفة خلال سنة أو سنتين أو ربما عشر سنوات إلى مخطوطه باختيار ما أمكن من التعابير المناسبة لنصه. حتى وإن كان النّص مجرد لعبة كلمات، تحتاج لتركيز وترتيب صارم لإنجاحها إلا أن الفكرة لا تقبل بأن يكون ذلك التريب صحيحا من الباب اللغوي فقط، من الباب البلاغي، إذ يلعب الزمن دورا مهما في التحكم في الأنساق أيضا…
نص اليوم ليس بالنص الذي كتب منذ عشرين سنة. هناك كُتّاب ماتوا بعد عشرين عملا من تجربتهم الأدبية، هناك من ماتوا بعد كتاب واحد، وهناك من قاموا من توابيتهم بعد نصف قرن من الموت الإجباري لأن نصوصهم خالفت قواعد الزمن وتخطت ذائقة عصرهم. هناك من كتبوا لقارئ عاصروه وذهبوا في صمت بعد أن عاشوا التهميش والإهمال والنبذ ولكنهم نالوا أمجادا لا نهاية لها بعد قرن من الزمن، وإن لم تجب نصوصهم على الأسئلة المعقدة حول سر نجاحهم المتأخر وفشلهم الآني خلال فترة حياتهم فهذا يعني حتما أن ما احتوته كتبهم ظل خارج اهتمامات القارئ خلال حقبتهم، وأن ما أُثير من أفكار ونوقش في تلك المتون الحكائية كاشف بما يكفي على أن الأدب قائم في الغالب على ما يناقشه لا على ما يصفه.
وأحب أن أذكر هنا نموذج « أنا كارينينا « لليو تولستوي، الرواية التي حمّلها عصارة أفكاره وختم بها تجربته الأدبية والتي عبَرت كل الحدود بين الأمم والأديان والثقافات، فوجد فيها المتدين غايته والملحد غايته، ورغم أن التدين أنواع والإلحاد أنواع أيضا إلا أن النص الذي أثار جدلا كبيرا وطويلا مقارنة بكل الأجيال التي قرأته انتهى انتصارا للمؤسسة الدينية عند البعض وانتهى عكس ذلك عند البعض الآخر، ذلك أن المناقشة التي أثارها تولستوي تولاها من الطرفين وبحث في العيوب والأسباب والدوافع والغايات عند الطرفين. ولن نعرف أبدا هل كتب ما خلص إليه من أفكار أم أنه فتح مناقشتها عند كتابته لتلك الرواية، وأن اتساع تجربته وفيض ما بلغه من حكمة هو الذي التصق بذلك الوصف البديع لشخصياته وأمكنته وبث فيها ولع الحب وشغف الحياة بما فيهما من مبالغات في لحظات الصراع الحاسمة.
أما السؤال الذي يبقى عالقا فهو مِمَّ جرّد الكاتب نصه وماذا أضاف إليه مقارنة مع الوقائع التي أوحت إليه بكتابته؟ لأن مرجعية النص دوما واقعية حتى وإن خرج إلينا بعباءة مختلفة، ويبدو أن براعة الكاتب تكمن هنا، حين يبرع في الوصف ويناقش بذكاء، أو لنقل أنه يحقق مآربه حين يعرف قارئه جيدا، إذ يبدوأحيانا أن سطوة فكرة « المثالية» وكتابة نص أدبي بمواصفات ترضي النقاد غالبا ما تنتج نصوصا فاشلة، فالنّاقد أيضا ابن عصره وبيئته ولا يمكنه أن يكون مقياسا جيدا للأدب، ما يُبقي فكرة الحكم على أي نص أدبي مجرّد فكرة نسبية…
حتى حين ينساق الناقد خلف نظرية معينة ويقسم النص إلى عناصر يخضعها لمنهجه النقدي، تبقى محتويات النص في ترابطها هي ما يؤثر في القارئ، وهي ما يمسى أدبا، أمّا تفكيكه وعرضه قطعة قطعة كأنه محرك سيارة مثلا فهذا ما لم يقنعني كقارئة على الأقل، وحتى حين أنجزت أطروحتي، منصاعة لنظام البحث الأكاديمي، كنت على قناعة أن النصوص التي كانت بين يدي لا يجوز أن نخلع عنها وقارها الأدب ونتأملها عارية أمامنا مفرغة من روحها الفكرية والإيديولوجية وغيرها…
لطالما اقتعنت أن الأدب هو المقياس الحقيقي لأي مجتمع ومن خلاله يمكننا أن نلمس مستوى الشعوب على السلم الحضاري، لهذا رجحت دوما أن الأدب هو مقترح جمالي لإصلاح ما أفسده الإنسان.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
0 تعليق على موضوع : مقترح جمالي -- بقلم : الشاعرة البحرينية بروين حبيب
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات