من مفارقات الثورة اللبنانية أن شرارتها كانت أصغر بكثير من مأساة اليوم، التي لا تثير غضب شعبي يذكر.
الثورة كانت اندلعت بعدما أقرّت الحكومة اللبنانية ضريبة بمقدار عشرة دولارات أميركية شهريا على مستخدمي تطبيق واتساب. خرج اللبنانيون غاضبون الى الشوارع، وراحوا يرددون ”ثورة، ثورة“، وأدت تظاهراتهم الى انهيار الحلقة الأضعف في الكيان السياسي اللبناني، أي الحكومة ورئيسها، وإلى قيام تنظيمات وبث شعارات، كان أكثرها شجاعة ”كلّن يعني كلّن“، لأنه كسر هالة القداسة التي كان يتخيلها لنفسه زعيم ”حزب الله“ حسن نصرالله ومناصروه.
على أنه على شجاعته، أخفى شعار ”كلّن يعني كلّن“ نقاط ضعف المجتمع اللبناني التي تجعل من التغيير مستحيلا، فالشعار يلقي مسؤولية الانهيار اللبناني بالتساوي على كل السياسيين. وسبب إصرار ثوار لبنان على هذه المساواة هو للتغطية على مشكلة الانقسامات الطائفية القبلية، إذ من دون ”كلّن يعني كلّن“، يمكن للزعماء التحصن خلف طوائفهم واتهام من يهاجمونهم من طوائف مغايرة على أنهم يحرّضون طائفيا. لذا، صار شعار ”كلّن يعني كلّن“ بمثابة اعلان براءة من كل الطوائف وزعمائها، ما يتيح للثوار حرية الانتقاد عبر الطوائف.
لكن المشكلة في الشعار تشي بأن الثورة حافظت على النمط السياسي السائد، أي الأسلوب الطائفي القبلي الذي يقضي بالمساواة الطائفية، حتى في شتم زعماء الطوائف.
أما لو كانت ثورة لبنان ثورة فعليا على السائد، فكان الأجدى بها أن لا تخجل من صب جام غضبها على زعيم طائفي دون آخر، اذ حتى مع اعتبار أن كل سياسي في لبنان سيء، تتطلب أي ثورة التمييز بين السيء والأسوأ.
مثلا يصعب مساواة رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، الأكثر نفوذا بين السياسيين في زمن الوصاية السورية على لبنان، بنصرالله، حاكم لبنان اليوم.
في السنوات العشرة التي كان الحريري فيها رئيسا للحكومة، بلغ معدل نمو الاقتصاد اللبناني 5.85 في المئة. أما معدل النمو الاقتصادي منذ تسلم نصرالله حكم لبنان في العام 2005، فيبلغ 1.2 في المئة. ومثل ذلك، عشية اغتيال الحريري، كان لبنان يحتل المرتبة 78 في الفساد بين 180 دولة. أما اليوم، تحت حكم نصرالله، فيحتل لبنان المرتبة 149. كذلك عند اغتيال الحريري، كان الدين العام يبلغ 40 مليار دولار، وهو اليوم يبلغ أكثر من 140 مليارا.
لم يكن لبنان دولة خالية من الفساد في زمن الحريري، ولم يكن بدون دين عام مرتفع، ولكنه كان يعيش نموا اقتصاديا لا بأس به. أما في عهد نصرالله، فتفشى الفساد بشكل غير مسبوق، وانفلت الدين العام من عقاله، ويمضي الاقتصاد في انهيار بلا قعر. الفوارق في مستوى معيشة اللبنانيين ومؤشرات الاقتصاد كانت أفضل، بما لا يقاس، في زمن الحريري، منها في زمن نصرالله. سبب التفاوت يكمن في الثمن المرتفع الذي يسدده نصرالله الى حلفائه السياسيين، من جيوب اللبنانيين وعلى حساب مصلحتهم، وذلك لشراء سكوت السياسيين على بقاء الميليشيا غير الدستورية التي يديرها زعيم ”حزب الله“.
الثورات يندر أن تكون خطا مستقيما، بل هي غالبا عبارة عن تجارب تتفاوت في نسب نجاحها، وهي تجارب يتعلم منها الشعب الثائر ليتفادى تكرارها، وليختار بين الأفضل بينها. والأفضل يستحيل أن يكون مثاليا، بل هو غالبا ما يكون خيارا بين السيء والأسوأ.
هذا يعني أن أكبر مشكلة وقع فيها ثوار لبنان هي تصورهم إمكانية الإطاحة بنظام لبنان بأكمله واستبداله بنظام طوباوي مثالي، وهذا أمر مستحيل. حتى تنجح ثورة لبنان، على الثوار العمل على دفع البلاد في اتجاه أفضل من الذي تسلكه، وهو ما يعني دفع لبنان للعودة الى نموذج الحريري الاقتصادي بدلا من نموذج ”الدولة المقاومة“ الذي يفرضه نصرالله.
والعودة الى نموذج الحريري لا يعني تنصيب ابنه رئيسا للحكومة، فالفارق جلي بين الأب الفذ وابنه ذي الموهبة المحدودة جدا في العمل العام.
العودة إلى نموذج الحريري الأب يعني أن يدرك الثوار أن ”كلّن يعني كلّن“ هو شعار ليس سياسة، وأن المطلوب هو الصراخ من أجل سياسات، لا ضد أشخاص.
والأفضل فعليا هو لو طالب الثوار بانتخاب نصرالله رئيسا للبلاد لأن انتخابه يجعله خاضعا للمساءلة أمام الناخبين، بدلا من اطلالاته المتكررة من برجه العالي، متحصنا خلف القداسة الدينية والمذهبية القبلية الطائفية، ومطلقا احكاما منجزة حول كيف تكون سياسة لبنان الخارجية والاقليمية والاقتصادية وغيرها.
في لبنان، لا خلاص بدون وأد نموذج ”الدولة المقاومة“، الذي أثبت فشله الذريع في لبنان وايران، والعودة الى ”اقتصاد الخدمات“، بالرغم من مساوئه. ثم يمكن السعي الى تحسين ”اقتصاد الخدمات“ وتحسين المؤشرات، الاقتصادية والحكومية (مثل مرتبة الفساد دوليا)، وبعد ذلك العمل على تحسين توزيع الدخل عبر الضرائب التصاعدية والتقديمات الحكومية الاجتماعية.
والبحبوحة من نمو اقتصادي غير ريعي تؤدي الى ربط اللبنانيين بمصالحهم، فتتلاشى ولاءاتهم القبلية الطائفية، وهو ما يسمح بالتخلص من هرطقات بطريرك الموارنة بشارة الراعي. صحيح أن رؤية البطريرك لنموذج لبنان تقضي بالعودة الى ”اقتصاد الخدمات“، الا أن آراءه تغرق في طائفية مقيتة جدا، ويمكن الاقتراح على البطريرك، لو هو أراد الاستمرار في إصدار التصريحات العامة بدلا من تفرغه للعبادة، أن يترشح كذلك للرئاسة حتى يصبح مثل نصرالله، منتخبا ومسؤولا في سياساته ومواقفه أمام ناخبيه، لا من المنيعين على المحاسبة أو الانتقاد بسبب قداسته ومرتبته الدينية.
الثورة ليست انقلابا يستبدل الحكام، بل تغيير تدريجي في الحكم يعكس التغيير في آراء المحكومين، وهو تغيير لا يكون دائما نحو الأفضل. في الولايات المتحدة مثلا، ثورات متواصلة على الرغم من استقرار الجمهورية منذ الحرب الأهلية. بعض الثورات تلغي القيود المالية وتزيد الاجتماعية منها، على غرار ثورة المحافظين التي أوصلت رونالد ريغان رئيسا للبيت الأبيض، وغيرها تعزز القيود المالية وتقلّص الاجتماعية، مثل الثورة التي جاءت بباراك أوباما رئيسا. بين الثورتين، يستخلص الأميركيون دروسا لخياراتهم المستقبلية، فيخطئون أحيانا ويصيبون في أحيان، ولكنهم يندر أن يصرخوا ”كلّن يعني كلّن“.
على أنه على شجاعته، أخفى شعار ”كلّن يعني كلّن“ نقاط ضعف المجتمع اللبناني التي تجعل من التغيير مستحيلا، فالشعار يلقي مسؤولية الانهيار اللبناني بالتساوي على كل السياسيين. وسبب إصرار ثوار لبنان على هذه المساواة هو للتغطية على مشكلة الانقسامات الطائفية القبلية، إذ من دون ”كلّن يعني كلّن“، يمكن للزعماء التحصن خلف طوائفهم واتهام من يهاجمونهم من طوائف مغايرة على أنهم يحرّضون طائفيا. لذا، صار شعار ”كلّن يعني كلّن“ بمثابة اعلان براءة من كل الطوائف وزعمائها، ما يتيح للثوار حرية الانتقاد عبر الطوائف.
لكن المشكلة في الشعار تشي بأن الثورة حافظت على النمط السياسي السائد، أي الأسلوب الطائفي القبلي الذي يقضي بالمساواة الطائفية، حتى في شتم زعماء الطوائف.
أما لو كانت ثورة لبنان ثورة فعليا على السائد، فكان الأجدى بها أن لا تخجل من صب جام غضبها على زعيم طائفي دون آخر، اذ حتى مع اعتبار أن كل سياسي في لبنان سيء، تتطلب أي ثورة التمييز بين السيء والأسوأ.
مثلا يصعب مساواة رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، الأكثر نفوذا بين السياسيين في زمن الوصاية السورية على لبنان، بنصرالله، حاكم لبنان اليوم.
في السنوات العشرة التي كان الحريري فيها رئيسا للحكومة، بلغ معدل نمو الاقتصاد اللبناني 5.85 في المئة. أما معدل النمو الاقتصادي منذ تسلم نصرالله حكم لبنان في العام 2005، فيبلغ 1.2 في المئة. ومثل ذلك، عشية اغتيال الحريري، كان لبنان يحتل المرتبة 78 في الفساد بين 180 دولة. أما اليوم، تحت حكم نصرالله، فيحتل لبنان المرتبة 149. كذلك عند اغتيال الحريري، كان الدين العام يبلغ 40 مليار دولار، وهو اليوم يبلغ أكثر من 140 مليارا.
لم يكن لبنان دولة خالية من الفساد في زمن الحريري، ولم يكن بدون دين عام مرتفع، ولكنه كان يعيش نموا اقتصاديا لا بأس به. أما في عهد نصرالله، فتفشى الفساد بشكل غير مسبوق، وانفلت الدين العام من عقاله، ويمضي الاقتصاد في انهيار بلا قعر. الفوارق في مستوى معيشة اللبنانيين ومؤشرات الاقتصاد كانت أفضل، بما لا يقاس، في زمن الحريري، منها في زمن نصرالله. سبب التفاوت يكمن في الثمن المرتفع الذي يسدده نصرالله الى حلفائه السياسيين، من جيوب اللبنانيين وعلى حساب مصلحتهم، وذلك لشراء سكوت السياسيين على بقاء الميليشيا غير الدستورية التي يديرها زعيم ”حزب الله“.
الثورات يندر أن تكون خطا مستقيما، بل هي غالبا عبارة عن تجارب تتفاوت في نسب نجاحها، وهي تجارب يتعلم منها الشعب الثائر ليتفادى تكرارها، وليختار بين الأفضل بينها. والأفضل يستحيل أن يكون مثاليا، بل هو غالبا ما يكون خيارا بين السيء والأسوأ.
هذا يعني أن أكبر مشكلة وقع فيها ثوار لبنان هي تصورهم إمكانية الإطاحة بنظام لبنان بأكمله واستبداله بنظام طوباوي مثالي، وهذا أمر مستحيل. حتى تنجح ثورة لبنان، على الثوار العمل على دفع البلاد في اتجاه أفضل من الذي تسلكه، وهو ما يعني دفع لبنان للعودة الى نموذج الحريري الاقتصادي بدلا من نموذج ”الدولة المقاومة“ الذي يفرضه نصرالله.
والعودة الى نموذج الحريري لا يعني تنصيب ابنه رئيسا للحكومة، فالفارق جلي بين الأب الفذ وابنه ذي الموهبة المحدودة جدا في العمل العام.
العودة إلى نموذج الحريري الأب يعني أن يدرك الثوار أن ”كلّن يعني كلّن“ هو شعار ليس سياسة، وأن المطلوب هو الصراخ من أجل سياسات، لا ضد أشخاص.
والأفضل فعليا هو لو طالب الثوار بانتخاب نصرالله رئيسا للبلاد لأن انتخابه يجعله خاضعا للمساءلة أمام الناخبين، بدلا من اطلالاته المتكررة من برجه العالي، متحصنا خلف القداسة الدينية والمذهبية القبلية الطائفية، ومطلقا احكاما منجزة حول كيف تكون سياسة لبنان الخارجية والاقليمية والاقتصادية وغيرها.
في لبنان، لا خلاص بدون وأد نموذج ”الدولة المقاومة“، الذي أثبت فشله الذريع في لبنان وايران، والعودة الى ”اقتصاد الخدمات“، بالرغم من مساوئه. ثم يمكن السعي الى تحسين ”اقتصاد الخدمات“ وتحسين المؤشرات، الاقتصادية والحكومية (مثل مرتبة الفساد دوليا)، وبعد ذلك العمل على تحسين توزيع الدخل عبر الضرائب التصاعدية والتقديمات الحكومية الاجتماعية.
والبحبوحة من نمو اقتصادي غير ريعي تؤدي الى ربط اللبنانيين بمصالحهم، فتتلاشى ولاءاتهم القبلية الطائفية، وهو ما يسمح بالتخلص من هرطقات بطريرك الموارنة بشارة الراعي. صحيح أن رؤية البطريرك لنموذج لبنان تقضي بالعودة الى ”اقتصاد الخدمات“، الا أن آراءه تغرق في طائفية مقيتة جدا، ويمكن الاقتراح على البطريرك، لو هو أراد الاستمرار في إصدار التصريحات العامة بدلا من تفرغه للعبادة، أن يترشح كذلك للرئاسة حتى يصبح مثل نصرالله، منتخبا ومسؤولا في سياساته ومواقفه أمام ناخبيه، لا من المنيعين على المحاسبة أو الانتقاد بسبب قداسته ومرتبته الدينية.
الثورة ليست انقلابا يستبدل الحكام، بل تغيير تدريجي في الحكم يعكس التغيير في آراء المحكومين، وهو تغيير لا يكون دائما نحو الأفضل. في الولايات المتحدة مثلا، ثورات متواصلة على الرغم من استقرار الجمهورية منذ الحرب الأهلية. بعض الثورات تلغي القيود المالية وتزيد الاجتماعية منها، على غرار ثورة المحافظين التي أوصلت رونالد ريغان رئيسا للبيت الأبيض، وغيرها تعزز القيود المالية وتقلّص الاجتماعية، مثل الثورة التي جاءت بباراك أوباما رئيسا. بين الثورتين، يستخلص الأميركيون دروسا لخياراتهم المستقبلية، فيخطئون أحيانا ويصيبون في أحيان، ولكنهم يندر أن يصرخوا ”كلّن يعني كلّن“.
0 تعليق على موضوع : في بعض أسباب فشل الثورة اللبنانية
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات