سئم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان من "عبثية المفاوضات" بين شطري جزيرة قبرص، وهو أعلن أنه لن ينتظر خمسين سنة أخرى، في مفاوضات حول "الفيدرالية" و"الدولة الواحدة"، مقدماً مقاربة جديدة لحل الأزمة، قوامها "حل الدولتين"...
وهو حرص في الذكرى السابعة والأربعين للغزو التركي لشمال الجزيرة، على إعادة طرح هذه المقاربة، وبقوة، وأمام عرض عسكري ضخم، أقيم فوق أراض محتلة لقبارصة يونانيين، فيما سماء الشطر الشمالي، كانت تعج بطائرات "إف 16" المقاتلة، في استعراض قوة وفرد للعضلات، ووقف إلى جانبه، أرسين تتار رئيس قبرص التركية، التي لا يعترف بها أحدٌ، غير أنقرة، وهو الذي حظي بدعم قوي من إردوغان و"المستوطنين الأتراك"، باعتباره يجسد النزعة الانفصالية للشمال، على حساب تيار أكثر نفوذاً وسط السكان الأصليين، ويدعو لحل سياسي لأزمة الجزيرة المنقسمة، يحفظ سيادتها وحدتها الترابية، ويصون تعدديتها الثقافية والاثنية.
إردوغان وحزب العدالة والتنمية، ذو المرجعية الإسلامية، ليسا مسؤولين عن الغزو ولا عن التقسيم الجغرافي لجزيرة، فقد حصل ما حصل قبل وصولهما إلى السلطة بربع قرن، جنرالات تركيا وعلمانيوها وقوميوها، هم من اتخذ قرار الحرب، وهم من نشر القواعد العسكرية، وهم من توسعوا باحتلال مدن يونانية وقسّموا العاصمة، وهم من هجّر الألوف من السكان، وهم من زرع المستوطنين الأتراك، وتحديداً من "ذوي الأسبقيات" في الشطر الشمالي، وهم من نشر "الكازينوهات" المحظورة في تركيا، وفي الشطر الجنوبي من الجزيرة بالمناسبة (سمح مؤخراً بإنشاء أول كازينو في ليماسول)... لكن إردوغان وحزبه الحاكم، لم يفعلا شيئاً مغايراً طوال العقدين الأخيرين، برغم أنهما حاولا "عكس" سياسة تركيا الداخلية والخارجية، وتصفية إرث المرحلة الكمالية، في مختلف المناحي وإن بتدرج في غالب الأحيان.
بل على العكس من ذلك تماماً، فقد شهدنا، ومنذ انهيار محادثات أنقرة مع بروكسل من أجل عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، حيث كان موقف تركيا من الأزمة القبرصية، أحد أسباب عرقلة هذه المحادثات (ليست السبب الوحيد بالطبع)، شهدنا تصعيداً في وتيرة النزعة الانفصالية عن "قبرص الرومية" كما تسمى بالقاموس التركي، وهي النزعة التي ستتعاظم وتتفاقم مع تتالي عمليات الكشف عن "الهيدروكربون" على سواحل الجزيرة في حوض شرق المتوسط برمتها، ما أغرى أنقرة بإبداء اهتمام أكبر، بالبقاء في الجزيرة، وتعزيز وجودها العسكري، والمضي في سياسة تغيير طابعها الديموغرافي، حيث تتفاعل في شمال الجزيرة عدة هويات، أهمها المواطنون الأصليون والوافدون من مختلف المحافظات التركية منذ العام 1974.
العالم ، ولأسباب مختلفة، استقبل بكثير من الرفض والتحفظ، فكرة "حل الدولتين"، قبرص واليونان، في طليعة المنددين والرافضين، وهذا أمرٌ مفهوم، سيما بعد إعلان إردوغان – تتار عن إعادة افتتاح منتجع فاروشا التابع لمدينة فماغوستا اليونانية المحتلة، المغلق منذ الغزو والتقسيم، وبالضد من القرارات الدولية، الاتحاد الأوروبي، كمنظومة وبعض دوله الأعضاء الكبرى، رفضت الفكرة فوراً ونددت بها، وكذلك فعلت إدارة بايدن، فيما موسكو التي ترتبط بعلاقات "نفعية متبادلة" مع تركيا، لن تتخلى عن روابطها "الأرثوذكسية" لا مع أثينا ولا مع نيقوسيا.
ومع إصرار إردوغان، وتابعة تتار، على نفض اليد من المبادرات الأممية لتوحيد الجزيرة، وبناء نظام فيدرالي يكفل لمكوناتها حقوقاً متساوية، وإصرارهما على التقسيم و"حل الدولتين"، من المحتمل أن يحال الملف برمته إلى مجلس الأمن الدولي، ليصدر عنها، كما هو مرجح للغاية، قرار جديد، ليس في صالح تركيا ولا الشطر الشمالي، الذي انحصرت صلة اتصاله بالعالم الخارجي خلال نصف القرن الأخير، ببوابة إسطنبول.
تتميز مواقف الغرب كما تركيا، من "المسألة القبرصية" مقارنة بـ"المسألة الفلسطينية"، بقدر هائل من "ازدواجية المعايير"... الغرب يرفض الاعتراف بدولة للشطر الشمالي، مع أنها دولة قائمة لا ينقصها سوى الاعتراف فقط، وقد مضى على هذا الحال، قرابة نصف القرن، وهو عاقب تركيا، ومستعد لفرض المزيد من العقوبات عليها، على خلفية هذه الأزمات و"توابعها"، وانتصاراً لدولتين عضوين في الاتحاد الأوروبي، وفي حلف "الناتو"، فيما لم تشفع لتركيا عضويتها في الأطلسي، ولا خدماتها الجليلة لها الحلف، الممتدة لليوم وغداً (كما في مشروع إبقاء قوات تركية في مطار كابل بطلب واشنطن وبالتنسيق معها)... بعض المراقبين والمحللين الأتراك والعرب، لا يستبعدون مُحقّين، "البعد الديني"، المسيحي – الأرثوذكسي في تصميم الموقف الغربي (والروسي كذلك) من المسألة القبرصية.
بالطبع هناك فيض من المبررات والأسباب والحجج (وبعضها دامغ)، التي تحول دون قبول المقاربة التركية، منها الغزو العسكري، واحتلال أراضي الغير بالقوة، وزرع المستوطنين الأتراك الذين تحولوا إلى عقدة في منشار الحل السياسي، وتغيير الأمر الواقع بالقوة القهرية للمحتل، بما في ذلك الطابع الديمغرافي، وغير ذلك من أسباب وموجبات، تجعلك تعتقد أن الحديث يدور عن القدس والضفة الغربية.
لكن في المقابل، تبدو جميع هذه المبررات والموجبات، معطلّة في الحالة الفلسطينية، فالفلسطينيون سكان البلاد الأصليين، وبرغم ركام القرارات الدولية ومشاريع التقسيم بخصوصهم، ما زالوا يجاهدون في سبيل انتزاع حقهم في تقرير مصير، ومنذ مئة عام، ومن دون جدوى... مساحة دولتهم تتقلص كل بضعة عقود، وما تبقى لهم من أرضٍ، مزروع بمئات المستوطنات ومئات ألوف المستوطنين، والغرب، كما الشرق، يكتفي بتقديم دعم لفظي لحقهم في دولتهم، ولا يفعل شيئاً غير أنه "يلوك" منذ عقود عبارة "حل الدولتين"، والتي تتحول سنة إثر أخرى، إلى وسيلة للتغطية على الاستيطان والضم الزاحف وابتلاع الحقوق وتهويد القدس الشرقية و"أسرلتها".
قلنا أن "ازدواجية المعايير، لا تقتصر على المواقف الغربية من المسألتين القبرصية والفلسطينية، فالأتراك بإجماع أحزابهم، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مُبْتَلون كذلك بالمعايير المزدوجة، فهم جاءوا إلى الجزيرة غزاةً في ظل حكومة حزب الشعب الجمهوري (الأتاتوركي)، بحجة منع "قبرص الرومية" من الالتحاق بغريمتهم التقليدية: اليونان، لكنهم لم يفعلوا طول خمسة عقود، سوى تكريس التحاق الشطر الشمالي بتركيا، وأحياناً بالضد من إرادة غالبية القبارصة الأتراك أنفسهم، ومشروعهم اليوم: حل الدولتين، لا يستهدف في التحليل الأخيرة، سوى تحويل الشطر الشمالي من الجزيرة إلى قاعدة متقدمة للعسكر والنفط والغاز، تكرس الحضور الإمبراطوري لتركيا في شرق المتوسط.
هم ينتقدون بتفاوت، بالأخص الحزب الحاكم ورئيسه، سياسات إسرائيل كدولة احتلال لفلسطين، لكنهم ينسون أنهم قوة احتلال في الشطر الشمالي، وأنهم يقيمون قواعدهم واستثماراتهم فوق أراضٍ محتلة، وأن مدن القبارصة اليونانيين، قد زرعت بالمستوطنين الأتراك، الذين حلّوا في منازل المهجرين والنازحين إلى الشطر الجنوبي، وأنهم شيئاً فشيئاً يسعون في طمس الإرث الثقافي والاجتماعي لهذه المنطقة، تماماً مثلما يفعلون في بعض مناطق شمال غرب سوريا هذه الأيام، وعمليات "الهندسة الديموغرافية" التي تجري فيها، تقتفي آثار الطريق الذي اختطته تركيا في شمال قبرص.
الاحتلال احتلال، حتى وإن صدر عن صديق أو شقيق، ولنا في تجربة الغزو العراقي للكويت وتداعيات الكارثية على البلدين والمنطقة والأمة العربية، ما ينهض شاهداً على ما نقول، مع أن البلدين ينتميان للقومية ذاتها، وللدين ذاته، ويتوزعهما المذهبان الرئيسان في الإسلام، وعشائرهما موزعة على خطوط الحدود المرسّمة بين البلدين الجارين... والاحتلال احتلال، حتى وأن جاء في بواكيره باستدعاء رسمي أو شبه رسمي من قوى محلية منخرطة في حرب أهلية، فبقاء الاحتلال لكل هذه الآجال الطويلة، يخفي أطماعاً مستترة، ويبدد فرضية العون الأخوي، ويفقده أية "شرعية" من أي نوع.
فما بالك حين ينتهي الاحتلال إلى "الضم" كما في حالة الكويت مع العراق قبل ثلاثة عقود (المحافظة 19)، أو إلى "إلحاق" كامل، كما في حالة الشطر الشمالي لقبرص مع تركيا، الممتد لخمسة عقود، وما رافق الاحتلالين، على اختلاف أمادهما وأجالهما، من عمليات تغيير للواقع القانوني أو التاريخي، و"هندسات ديموغرافية" وفبركات لنظم سياسية عميلة ومرتبطة وجودياً بالمحتل.
التجربة الفلسطينية مع الاحتلال، لا تقارن بأي صيغة من الصيغ مع التجربتين المذكورتين، فالاحتلال لم يصدر عن صديق أو شقيق، ونهض على فرضية إنكار وجود الشعب (أرض بلا شعب)، وادعاء "حق إلهي لشعب بلا أرض"، وعمل منذ بواكيره الأولى، لا على سرقة الأرض والحقوق فحسب، بل وطمس المعالم الثقافية والتاريخية، ومصادرة التراث الحضاري لسكان البلاد الأصليين، وتحويلهم إلى جاليات منقوصة الحقوق، وعرضة يومياً لاستلاب منازلها وتدميرها وتهجير سكانها، إلى غير ما هناك من مظاهر تمييز عنصري تناولتها بالتفصيل، منظمات حقوقية أميركية وإسرائيلية وأعضاء في الكونغرس والبرلمانات الأوروبية، بعد أن ملّ الفلسطينيون من فرط تحذيراتهم من نظام "فصل عنصري" يفرض عليهم في مختلف أماكن تواجدهم.
النظر بعقل بارد للجدل الدائر بين تركيا من جهة والمجتمع الدولي بعمومه من جهة ثانية، حول "حل الدولتين" للأزمة القبرصية، يبرر شكوكنا في النيّات التركية، ليس لأنه نتاج وقائع مفروضة على الأرض بقوة الاحتلال، بل ولأنه يزرع بذور صراع لخمسين سنة قادمة... ونرى أن من الأفضل للسيد إردوغان أن ينتظر خمسين سنة قادمة من المفاوضات والمبادرات السياسية، على أن يغرق ويُغرق بلاده والمنطقة، لخمسين سنة أخرى، في صراعات لن تتوقف شراراتها على الجزيرة المتوسطية.
إن من يجيز استقلال "قبرص التركية" عن "قبرص الرومية"، بالاستناد إلى الحقائق المفروضة بقوة الاحتلال وبالضد من "اتفاقية جنيف الرابعة"، ومرجعيات عملية سلام الجزيرة، سيعدم الحجة في مقارعة الحجج والذرائع التي تسوقها إسرائيل للاحتفاظ باحتلال للقدس والضفة الغربية، بل وسيجد صعوبة في تفنيد الفرضيات المؤسسة لـ"صفقة القرن"، والتي تجاهلت الشرعيات والمرجعيات والقرارات الدولية، وبنت خرائطها على "الأمر الواقع" المفروض بقوة الدبابة والجرافة.
وأن يكون أغلب سكان قبرص الشمالية من المستوطنين الأتراك، لا يبرر استقلالها، تماماً مثلما أن وجود 700 ألف مستوطن إسرائيلي في الضفة والقدس، لا يبرر "صفقة الضم" وخرائط جارد كوشنير الافتراضية... والوجود العسكري التركي في شمال قبرص، لا يعطي السيد إردوغان "الحق" في إدارة الظهر للشرعية الدولية، تماماً مثلما أن الوجود الاحتلالي العسكري لا يعطي لإسرائيل "الحق" في إدارة الظهر للشرعية الدولية في فلسطين، هذا إن تحدثنا بلغة الشرعيات والمرجعيات والقرارات الدولية.
أما إن تحدثنا بمنطق القوة، وليس بقوة المنطق والشرعية، فإن الخلاصة من أسفٍ: أن فرص تركيا في فرض "حل الدولتين" لقبرص، تبدو أعلى بكثير، على صعوباتها، من فرص المجتمع الدولي في فرض "حل الدولتين" في فلسطين... ومن سخريات القدر، أن القبارصة الأتراك، سكان البلاد والوافدين، يتجهون لحل الدولتين، فيما سكان البلاد الأصليين في فلسطين، المقيمين والعائدين كذلك (المقصود بعد 1994)، يجدون أنفسهم متجهين لحل "الدولة الواحدة"، بعد أن تقطعت السبل بـ"حل الدولتين"، إن بفعل الاستيطان والضم والتهويد والأسرلة، أو لأسباب تتصل بالضعف الفلسطيني والعجز العربي والتواطؤ الدولي.
إردوغان وحزب العدالة والتنمية، ذو المرجعية الإسلامية، ليسا مسؤولين عن الغزو ولا عن التقسيم الجغرافي لجزيرة، فقد حصل ما حصل قبل وصولهما إلى السلطة بربع قرن، جنرالات تركيا وعلمانيوها وقوميوها، هم من اتخذ قرار الحرب، وهم من نشر القواعد العسكرية، وهم من توسعوا باحتلال مدن يونانية وقسّموا العاصمة، وهم من هجّر الألوف من السكان، وهم من زرع المستوطنين الأتراك، وتحديداً من "ذوي الأسبقيات" في الشطر الشمالي، وهم من نشر "الكازينوهات" المحظورة في تركيا، وفي الشطر الجنوبي من الجزيرة بالمناسبة (سمح مؤخراً بإنشاء أول كازينو في ليماسول)... لكن إردوغان وحزبه الحاكم، لم يفعلا شيئاً مغايراً طوال العقدين الأخيرين، برغم أنهما حاولا "عكس" سياسة تركيا الداخلية والخارجية، وتصفية إرث المرحلة الكمالية، في مختلف المناحي وإن بتدرج في غالب الأحيان.
بل على العكس من ذلك تماماً، فقد شهدنا، ومنذ انهيار محادثات أنقرة مع بروكسل من أجل عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، حيث كان موقف تركيا من الأزمة القبرصية، أحد أسباب عرقلة هذه المحادثات (ليست السبب الوحيد بالطبع)، شهدنا تصعيداً في وتيرة النزعة الانفصالية عن "قبرص الرومية" كما تسمى بالقاموس التركي، وهي النزعة التي ستتعاظم وتتفاقم مع تتالي عمليات الكشف عن "الهيدروكربون" على سواحل الجزيرة في حوض شرق المتوسط برمتها، ما أغرى أنقرة بإبداء اهتمام أكبر، بالبقاء في الجزيرة، وتعزيز وجودها العسكري، والمضي في سياسة تغيير طابعها الديموغرافي، حيث تتفاعل في شمال الجزيرة عدة هويات، أهمها المواطنون الأصليون والوافدون من مختلف المحافظات التركية منذ العام 1974.
العالم ، ولأسباب مختلفة، استقبل بكثير من الرفض والتحفظ، فكرة "حل الدولتين"، قبرص واليونان، في طليعة المنددين والرافضين، وهذا أمرٌ مفهوم، سيما بعد إعلان إردوغان – تتار عن إعادة افتتاح منتجع فاروشا التابع لمدينة فماغوستا اليونانية المحتلة، المغلق منذ الغزو والتقسيم، وبالضد من القرارات الدولية، الاتحاد الأوروبي، كمنظومة وبعض دوله الأعضاء الكبرى، رفضت الفكرة فوراً ونددت بها، وكذلك فعلت إدارة بايدن، فيما موسكو التي ترتبط بعلاقات "نفعية متبادلة" مع تركيا، لن تتخلى عن روابطها "الأرثوذكسية" لا مع أثينا ولا مع نيقوسيا.
ومع إصرار إردوغان، وتابعة تتار، على نفض اليد من المبادرات الأممية لتوحيد الجزيرة، وبناء نظام فيدرالي يكفل لمكوناتها حقوقاً متساوية، وإصرارهما على التقسيم و"حل الدولتين"، من المحتمل أن يحال الملف برمته إلى مجلس الأمن الدولي، ليصدر عنها، كما هو مرجح للغاية، قرار جديد، ليس في صالح تركيا ولا الشطر الشمالي، الذي انحصرت صلة اتصاله بالعالم الخارجي خلال نصف القرن الأخير، ببوابة إسطنبول.
تتميز مواقف الغرب كما تركيا، من "المسألة القبرصية" مقارنة بـ"المسألة الفلسطينية"، بقدر هائل من "ازدواجية المعايير"... الغرب يرفض الاعتراف بدولة للشطر الشمالي، مع أنها دولة قائمة لا ينقصها سوى الاعتراف فقط، وقد مضى على هذا الحال، قرابة نصف القرن، وهو عاقب تركيا، ومستعد لفرض المزيد من العقوبات عليها، على خلفية هذه الأزمات و"توابعها"، وانتصاراً لدولتين عضوين في الاتحاد الأوروبي، وفي حلف "الناتو"، فيما لم تشفع لتركيا عضويتها في الأطلسي، ولا خدماتها الجليلة لها الحلف، الممتدة لليوم وغداً (كما في مشروع إبقاء قوات تركية في مطار كابل بطلب واشنطن وبالتنسيق معها)... بعض المراقبين والمحللين الأتراك والعرب، لا يستبعدون مُحقّين، "البعد الديني"، المسيحي – الأرثوذكسي في تصميم الموقف الغربي (والروسي كذلك) من المسألة القبرصية.
بالطبع هناك فيض من المبررات والأسباب والحجج (وبعضها دامغ)، التي تحول دون قبول المقاربة التركية، منها الغزو العسكري، واحتلال أراضي الغير بالقوة، وزرع المستوطنين الأتراك الذين تحولوا إلى عقدة في منشار الحل السياسي، وتغيير الأمر الواقع بالقوة القهرية للمحتل، بما في ذلك الطابع الديمغرافي، وغير ذلك من أسباب وموجبات، تجعلك تعتقد أن الحديث يدور عن القدس والضفة الغربية.
لكن في المقابل، تبدو جميع هذه المبررات والموجبات، معطلّة في الحالة الفلسطينية، فالفلسطينيون سكان البلاد الأصليين، وبرغم ركام القرارات الدولية ومشاريع التقسيم بخصوصهم، ما زالوا يجاهدون في سبيل انتزاع حقهم في تقرير مصير، ومنذ مئة عام، ومن دون جدوى... مساحة دولتهم تتقلص كل بضعة عقود، وما تبقى لهم من أرضٍ، مزروع بمئات المستوطنات ومئات ألوف المستوطنين، والغرب، كما الشرق، يكتفي بتقديم دعم لفظي لحقهم في دولتهم، ولا يفعل شيئاً غير أنه "يلوك" منذ عقود عبارة "حل الدولتين"، والتي تتحول سنة إثر أخرى، إلى وسيلة للتغطية على الاستيطان والضم الزاحف وابتلاع الحقوق وتهويد القدس الشرقية و"أسرلتها".
قلنا أن "ازدواجية المعايير، لا تقتصر على المواقف الغربية من المسألتين القبرصية والفلسطينية، فالأتراك بإجماع أحزابهم، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مُبْتَلون كذلك بالمعايير المزدوجة، فهم جاءوا إلى الجزيرة غزاةً في ظل حكومة حزب الشعب الجمهوري (الأتاتوركي)، بحجة منع "قبرص الرومية" من الالتحاق بغريمتهم التقليدية: اليونان، لكنهم لم يفعلوا طول خمسة عقود، سوى تكريس التحاق الشطر الشمالي بتركيا، وأحياناً بالضد من إرادة غالبية القبارصة الأتراك أنفسهم، ومشروعهم اليوم: حل الدولتين، لا يستهدف في التحليل الأخيرة، سوى تحويل الشطر الشمالي من الجزيرة إلى قاعدة متقدمة للعسكر والنفط والغاز، تكرس الحضور الإمبراطوري لتركيا في شرق المتوسط.
هم ينتقدون بتفاوت، بالأخص الحزب الحاكم ورئيسه، سياسات إسرائيل كدولة احتلال لفلسطين، لكنهم ينسون أنهم قوة احتلال في الشطر الشمالي، وأنهم يقيمون قواعدهم واستثماراتهم فوق أراضٍ محتلة، وأن مدن القبارصة اليونانيين، قد زرعت بالمستوطنين الأتراك، الذين حلّوا في منازل المهجرين والنازحين إلى الشطر الجنوبي، وأنهم شيئاً فشيئاً يسعون في طمس الإرث الثقافي والاجتماعي لهذه المنطقة، تماماً مثلما يفعلون في بعض مناطق شمال غرب سوريا هذه الأيام، وعمليات "الهندسة الديموغرافية" التي تجري فيها، تقتفي آثار الطريق الذي اختطته تركيا في شمال قبرص.
الاحتلال احتلال، حتى وإن صدر عن صديق أو شقيق، ولنا في تجربة الغزو العراقي للكويت وتداعيات الكارثية على البلدين والمنطقة والأمة العربية، ما ينهض شاهداً على ما نقول، مع أن البلدين ينتميان للقومية ذاتها، وللدين ذاته، ويتوزعهما المذهبان الرئيسان في الإسلام، وعشائرهما موزعة على خطوط الحدود المرسّمة بين البلدين الجارين... والاحتلال احتلال، حتى وأن جاء في بواكيره باستدعاء رسمي أو شبه رسمي من قوى محلية منخرطة في حرب أهلية، فبقاء الاحتلال لكل هذه الآجال الطويلة، يخفي أطماعاً مستترة، ويبدد فرضية العون الأخوي، ويفقده أية "شرعية" من أي نوع.
فما بالك حين ينتهي الاحتلال إلى "الضم" كما في حالة الكويت مع العراق قبل ثلاثة عقود (المحافظة 19)، أو إلى "إلحاق" كامل، كما في حالة الشطر الشمالي لقبرص مع تركيا، الممتد لخمسة عقود، وما رافق الاحتلالين، على اختلاف أمادهما وأجالهما، من عمليات تغيير للواقع القانوني أو التاريخي، و"هندسات ديموغرافية" وفبركات لنظم سياسية عميلة ومرتبطة وجودياً بالمحتل.
التجربة الفلسطينية مع الاحتلال، لا تقارن بأي صيغة من الصيغ مع التجربتين المذكورتين، فالاحتلال لم يصدر عن صديق أو شقيق، ونهض على فرضية إنكار وجود الشعب (أرض بلا شعب)، وادعاء "حق إلهي لشعب بلا أرض"، وعمل منذ بواكيره الأولى، لا على سرقة الأرض والحقوق فحسب، بل وطمس المعالم الثقافية والتاريخية، ومصادرة التراث الحضاري لسكان البلاد الأصليين، وتحويلهم إلى جاليات منقوصة الحقوق، وعرضة يومياً لاستلاب منازلها وتدميرها وتهجير سكانها، إلى غير ما هناك من مظاهر تمييز عنصري تناولتها بالتفصيل، منظمات حقوقية أميركية وإسرائيلية وأعضاء في الكونغرس والبرلمانات الأوروبية، بعد أن ملّ الفلسطينيون من فرط تحذيراتهم من نظام "فصل عنصري" يفرض عليهم في مختلف أماكن تواجدهم.
النظر بعقل بارد للجدل الدائر بين تركيا من جهة والمجتمع الدولي بعمومه من جهة ثانية، حول "حل الدولتين" للأزمة القبرصية، يبرر شكوكنا في النيّات التركية، ليس لأنه نتاج وقائع مفروضة على الأرض بقوة الاحتلال، بل ولأنه يزرع بذور صراع لخمسين سنة قادمة... ونرى أن من الأفضل للسيد إردوغان أن ينتظر خمسين سنة قادمة من المفاوضات والمبادرات السياسية، على أن يغرق ويُغرق بلاده والمنطقة، لخمسين سنة أخرى، في صراعات لن تتوقف شراراتها على الجزيرة المتوسطية.
إن من يجيز استقلال "قبرص التركية" عن "قبرص الرومية"، بالاستناد إلى الحقائق المفروضة بقوة الاحتلال وبالضد من "اتفاقية جنيف الرابعة"، ومرجعيات عملية سلام الجزيرة، سيعدم الحجة في مقارعة الحجج والذرائع التي تسوقها إسرائيل للاحتفاظ باحتلال للقدس والضفة الغربية، بل وسيجد صعوبة في تفنيد الفرضيات المؤسسة لـ"صفقة القرن"، والتي تجاهلت الشرعيات والمرجعيات والقرارات الدولية، وبنت خرائطها على "الأمر الواقع" المفروض بقوة الدبابة والجرافة.
وأن يكون أغلب سكان قبرص الشمالية من المستوطنين الأتراك، لا يبرر استقلالها، تماماً مثلما أن وجود 700 ألف مستوطن إسرائيلي في الضفة والقدس، لا يبرر "صفقة الضم" وخرائط جارد كوشنير الافتراضية... والوجود العسكري التركي في شمال قبرص، لا يعطي السيد إردوغان "الحق" في إدارة الظهر للشرعية الدولية، تماماً مثلما أن الوجود الاحتلالي العسكري لا يعطي لإسرائيل "الحق" في إدارة الظهر للشرعية الدولية في فلسطين، هذا إن تحدثنا بلغة الشرعيات والمرجعيات والقرارات الدولية.
أما إن تحدثنا بمنطق القوة، وليس بقوة المنطق والشرعية، فإن الخلاصة من أسفٍ: أن فرص تركيا في فرض "حل الدولتين" لقبرص، تبدو أعلى بكثير، على صعوباتها، من فرص المجتمع الدولي في فرض "حل الدولتين" في فلسطين... ومن سخريات القدر، أن القبارصة الأتراك، سكان البلاد والوافدين، يتجهون لحل الدولتين، فيما سكان البلاد الأصليين في فلسطين، المقيمين والعائدين كذلك (المقصود بعد 1994)، يجدون أنفسهم متجهين لحل "الدولة الواحدة"، بعد أن تقطعت السبل بـ"حل الدولتين"، إن بفعل الاستيطان والضم والتهويد والأسرلة، أو لأسباب تتصل بالضعف الفلسطيني والعجز العربي والتواطؤ الدولي.
1 تعليق على موضوع : "حل الدولتين".. من قبرص إلى فلسطين
Baccarat, Poker, Craps, Blackjack and more | FEBCASINO
› baccarat › online-gambling › baccarat 바카라 › 메리트 카지노 online-gambling 메리트 카지노 고객센터
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات