غداة وصولي إلى مونتريال، قصدت بحماسة، مكتبة صغيرة قريبة من مكان سكني اعتدت أن اشتري منها المجلات الأسبوعية والشهرية والدوريات. وجدت فيها دوريات لم أجدها حتى في مطار أورلي. كانت خاوية تصفر وقد علقت عليها يافطة "للإيجار"!!
يتضاءل عدد المكتبات في مونتريال. مكتبة Parchemain Le في محطة مترو بيري- أوكام (التي على ذمة الراوي سميت، كما الشارع المحاذيBerry تيمنا بالرئيس نبيه بري الذي وصل شعاع نفوذه إلى قلب مونتريال!!) أعلنت إفلاسها وتبيع ما لديها بحسومات تصل إلى الخمسين بالمئة. بقي في منطقتي ثلاث مكتبات كبيرة: أرشانبو وأنديغو ورينو براي، اشتري منهما الإصدارات الحديثة. تصادف في الأحياء بعض المكتبات الصغيرة جدا وهي غالبا متخصصة ببعض المواضيع: حيوانات أو غذاء أو نباتات... الجيد مقاومة مكتبة خاصة جدا تعود لزمن الإنتليجانسيا الجميل، التي في طريقها إلى الانقراض. اسم المكتبة Volume تضع على واجهتها إعلان: "نبيع ونشتري الكتب". نعثر فيها على الكثير من الكتب المفقودة في الأسواق العادية أو النادرة من أهم كتب الفلسفة والسوسيولجيا والأدب والفن وجميع ما يخطر ببالك لكتّاب كبار. اذهب واقضي فيها بعض الوقت لمطالعة العناوين وتصفح بعض الكتب واخرج في كل مرة مع القليل منها. أرجو أن تقاوم مثل هذه المكتبات فترة وجودي المتبقية على ظهر الكوكب.
فيما عدا موت المكتبات هناك الكثير من المحال والبوتيكات الخاصة بالملابس، والتي كانت رائجة، تجدها أغلقت أبوابها. مع أن بعضها كان يملك سلسلة محال ناجحة مثل (Le Chateauاو BEDO) . ذلك أن شرط الاستمرار في الوجود اليوم هو الظهور على شبكة الإنترنت وفي محرك البحث. أي يجب أن تكون من حزب 0.2 كي تستمر في السوق، بعد أن حلّت أمازون وخدماتها الميسرة والسريعة والموفرة محل المتاجر العادية. حتى أن بعضها كمحل BestBuy للأدوات الإلكترونية يخفض سعره عندما تظهر له سعر أمازون. كانت مصر أم الدنيا؟ الآن أمازون متجر الدنيا: يغطي جميع حاجياتك ما عدا الفاكهة والخضار واللحوم الطازجة؛ حتى إشعار آخر بالطبع.
من يذكر كوداك ومتاجرها؟ لا أدري إلى متى ستظل المدن الكبرى على الهيئة التي نعرفها لها. لا شك أنها ستتغير في المستقبل. ربما ستشبه المدن التي تعرضها لنا سينما الخيال العلمي. فإلى متى ستقاوم محال الثياب التي نتلمس فيها الملابس ونقلبها ونقيسها عندما ستتحول الأجيال القادمة نحو التبضع الرقمي، كما يفعل البعض الآن!! اذ يكفي أن تعرف مقاساتك الدقيقة كي تطلب ما تريد وبأسعار تنافسية نظرا لأن التاجر يوفر إيجارات المحال المرتفعة بهذه الطريقة. أو عندما ستتمكن من طباعة سلعك في تقنية الثلاثة أبعاد؟
فيما عدا ذلك مونتريال على حالها. مدينة تفتح ذراعيها للزائر وللثقافات المتعددة. سبق أن وصفت شعوري كلما زرتها. ينتابني إحساس بالخفة وكأن حملا ثقيلا قد أزيح عن أكتافي. وبالنظافة عندما اتنشق الهواء النظيف وبالنضارة التي يبثها الأخضر كيفما التفت.
يجتاحك شعور بالحرية والانسياب. ففيها لا شيء يعيق حركتك. حرية الأفراد فيما يتعلق بحياتهم الشخصية وخياراتهم تكاد تكون مطلقة. ستقف أو تجلس أو تمشي أو تعزف أو ترقص في شوارع مقفلة بوجه المركبات ومحفوظة للمشاة ونشاطاتهم الفنية والثقافية طوال فصل الصيف. ستعانق من تريد وكما تريد وترغب. ستجد جميع أنواع البشر بسحناتهم المتنوعة التي تكاد تغطي جمع الأعراق والأصول من جميع أنحاء الكرة، بأشكالهم وألوانهم وملابسهم وموضاتهم المختلفة مع شعورهم من جميع الأشكال والألوان حرفيا. ولن تستغرب أن تجد من خرج من بيته بالخف المنزلي أو البيجاما أأو الصديرية الداخلية مثلا. لن تجد من يلتفت إليه مجرد التفاتة أو نظرة جانبية أو تعليق. ستجد كوبلات تجمع الأضداد والمتشابهين والمختلفين، مهما كان لونهم أو جنسهم أو عمرهم أو عرقهم. أيضا يمكنك أن تتحدث أي لغة وبأي لهجة تريد، من دون أن تسمع أي تعليق يشعرك بالخجل. طبعا تصادف أحيانا سلوكا فظا من البعض أو التفاتة مستغربة عندما يسمع لغتك العربية فتشعر فيها ببعض العنصرية. لكنها نادرة ومكتومة.
ناهيك عن قدرتك على التخطيط والتحكم بوقتك لتقرير ما ستفعله من دون خوف أو تحسب لعائق خارج عن إرادتك. تتابع الأيام متحررة من الخوف والترقب والإحساس بالهشاشة التي يستدعيها القلق مما قد يحمله الغد تبعا للظروف والأوضاع، سواء السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية. ستشعر هنا أنك بأمان، حتى البوليس يتصرف بطلف ودماثة ومراعاة.
ذات يوم بعد خروجي من المترو في شارع سانت كاترين، فوجئت بتجمع من قوى الشرطة، عشرة أفراد بالضبط، يتحلقون حول رجل يجلس على الرصيف. بدا مضطربا ويتلفظ بكلمات غير مترابطة وهو في حالة سكر شديدة. حييت الصبية الوحيدة بينهم وسألتها ما الذي يحدث؟ فردت مبتسمة إنهم يحاولون محادثة الرجل لمعرفة ماذا يريد لأنه ملأ الشارع صراخا قبل مجيئهم. تركتهم متحلقين حوله بهدوء، من دون أي صوت. كأن الخوف والعنف من كوكب آخر، كوكب يشبه بيروت.
ستصادف البوليس غالبا في حالات من هذا النوع. سياراته متوقفة في شارع جانبي، فيما يحاول بعض أفراده تهدئة روع أحدهم أو إحداهن أو إسعافه مما ألمّ به. غالبا ما سيرافقك هذا الشعور بالأمن. ذات يوم ذهبت فيه للتسوق وفي حقيبتي حوالي 250$ أو أكثر من فئة عشرين وأقل. قصدت محطة المترو القريبة من البيت، والتي تخضع لحفريات وأعمال صيانة وتجديد جذرية، لذا صارت عرضة لتيارات هواء قوية أقرب إلى عاصفة تهب عليك من طبيعة غاضبة. نزلت الدرج وبينما أفتح محفظتي التي انتفخت بالأوراق، لاتناول بطاقة اشتراك المترو، نفخ فيها الهواء فتبعثرت الأوراق النقدية وتطايرت منتشرة حولي. قلت في نفسي إنها ضاعت. لكن في نفس اللحظة نظر إليّ الركاب الموجودون بتعاطف شديد وبدأ شاب وصبية بالتقاط الأوراق النقدية وساعدهم الركاب بلملمتها وإرجاعها لي سالمة. بينما نظر إلي رجل كبير بالسن عاتبا بلوم: لماذا أخذت المترو!! وكأنني أحمل ثروة تحتاج إلى تاكسي لنقلها.
اعتقد أن الناس لم يعودوا معتادين على حمل الكثير من النقود لأن معظمهم يستخدم البطاقات الائتمانية، أو أنهم لا يملكون الكثير منها. كحال الرجل الذي خاطبني. لكن السؤال: ماذا كان سيحدث لو انني تعرضت لحادث مشابه في بيروت أو أي مدينة عربية أخرى؟ اتمنى أن يكونوا عند حسن الظن هم أيضا!!
في مونتريال سيصطف الناس في طوابير عند أقل زحمة. أمام الباصات وحتى في أنفاق المترو بانتظار وصوله في ساعات الزحمة. لكن ربما أطول طابور صادفته في حياتي كان الطابور المصطف أمام محل من تلك التي خصصت لبيع الحشيش، التي شرعت مؤخرا. بلغ طوله أكثر من 50 مترا. وقفوا في الصف بهدوء بعيدا عن مداخل المحال التجارية.
لكن أجمل ما لفتني وأعاد إلى ذاكرتي أيام النضال الطلابي الذهبية، كانت المسيرات اليومية التي ينظمها الطلاب في الشوارع المعروفة باسم الكارتييه لاتين في محيط شارع السانت كاترين، طوال الأسبوعين قبل العودة إلى الجامعات. يتجمع طلاب السنتين الأولى والثانية مجموعات مختلطة صغيرة أو متوسطة، بحسب الصف والجامعة، من دون أي اشارة سوى لون التي شيرتات الموحد مع شعار تختاره المجموعة إضافة إلى كلمة frosh التي يضعها الجميع. بعد ظهيرة كل يوم حتى المساء ستصادف جموعهم مع هتافاتهم وأغانيهم يدورون في الشوارع متنقلين بين حانة وبار ومقهى تتزاحم في تلك المنطقة... على طريقة الهيبيين في الستينيات والسبعينيات. تعيد مسيراتهم ذكريات الماضي الجميل الذي انتهى كليا مع الألفية الثالثة.
مونتريال في الصيف مدينة لن تسمح للشعور بالملل أن يراودك في أي لحظة.
0 تعليق على موضوع : مشاهدات منوعة من مونتريال 1 / بقلم : منى فياض
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات