من بديهيات الدولة الفاسدة فقدان الإرادة السياسية ومن بديهياتها أيضا تنامي مراكز القوة واضمحلال سلطة الدولة لتصبح ميليشيات الحشد الشعبي مركز قوة وقرار أدخل بلاد الرافدين في نفق ظلامي.
جاءت مطالب الحراك الشعبي العراقي بالكشف عن قتلة المتظاهرين بعد سلسلة من الاغتيالات طالت ناشطين في الاحتجاجات، وعندما لم تتوقف هذه الاغتيالات بالرغم من تصاعد الاحتجاجات علت أصوات تطالب شباب الحراك بالانتقال من الثورة السلمية إلى الثورة المسلحة.
هناك رأي في الشارع العراقي يقول: إن السيناريو الهوليوودي الإيراني بشأن اعتقال أحد قادة الحشد كان فبركة أتقنت صياغتها في غرف السفارة الإيرانية وبعلم الأحزاب ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي والهدف منها تهدئة الاحتجاجات، كون قاسم مصلح، أحد قياديي الحشد البارزين في الأنبار، وقد أشارت الكثير من الدلائل إلى أنه متورط في قتل المتظاهرين والكثير من الناشطين البارزين.
لكن الرياح جرت على عكس ما خطط له الكاظمي حيث احتج الحشد واستعرض عضلاته، محاصرا المنطقة الخضراء، مركز الحكم والسفارات الأجنبية.
صراع إرادة جموع الشعب تحت ثوابت المواطنة أمام الغول الإيراني
هناك من الناشطين من يرى أن السلمية مازالت مجدية على الرغم من الخسائر التي يتكبدها الثوار بسببها، ولا يؤيد اللجوء إلى السلاح أبدا
خُطّط لمصير مصلح أن يظل مجهولا فلا أحد يدري هل أطلق الكاظمي سراحه أم أنه مازال معتقلا فعلا، وهل كان هذا الاعتقال سيناريو متفقا عليه بين رئيس الوزراء وقوات الحشد (اللادولة) التي تخشاها قوات الدولة؟
وعلى الرغم من أن وزير الدفاع العراقي جمعة عناد، أكد أن مصلح مازال معتقلا لدى القوات المشتركة، إلا أن تسريبات أشارت إلى أنه ينزل ضيفا في بيت رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض.
هناك من يطالب الحراك الشبابي بضبط النفس والتمسك بالسلمية وعدم الانجرار وراء إرادة الميليشيات بمقابلة العنف بالعنف. ويتحدث منظمو الاحتجاجات في بغداد عن استخدام تكتيك جديد هذه المرة، يقضي بتوزيع الاحتجاجات على ساحات عدة في العاصمة العراقية، وعدم تركيزها في ساحة واحدة، تفاديا للتضييق الأمني، وقد توزع المحتجون بين ساحات النسور في كرخ بغداد، والتحرير والفردوس في رصافتها.
مثلت المطالبة بالكشف عن قتلة الناشطين العراقيين، المطلب الرئيس للاحتجاجات هذه المرة بعد تفاقم عمليات اغتيالهم، وعدم كشف السلطات العراقية عن مرتكبي تلك العمليات، حتى الآن بالرغم من المطالبات المتكررة للناشطين وجماعات حقوق الإنسان بذلك. وكان اغتيال الناشط إيهاب الوزني، منسق الاحتجاجات المناهضة للسلطة في كربلاء، علي أيدي مجهولين قرب منزله في 9 مايو الماضي، دافعا قويا وراء الدعوة إلى الاحتجاجات النوعية التي انطلقت الثلاثاء 25 مايو الماضي.
الكاظمي عاجز عن حماية نفسه
يستبعد السياسي والكاتب العراقي عوني القلمجي أن يكون هناك ربط مسبق مخطط له بين استعراض الميليشيات لعضلاتها وبين تصاعد الاحتجاجات في بغداد والمحافظات، مؤكدا أن كل ما في الأمر أن المحتجين خرجوا مطالبين بالكشف عن قاتليهم تحت شعار “من قتلني”؟ إلا أن الكاظمي، وهو على أبواب الانتخابات، أراد أن يظهر بصورة ترضي المحتجين فاعتقل شخصا واحدا من القتلة، وفي حسابه أنه سيكسب بذلك رضا المتظاهرين ويكسب جولة الانتخابات أمام الفساد، لكنه فوجئ برد فعل عنيف من الميليشيات التي انتقلت منذ أكثر من عشر سنوات، لتضع نفسها في خانة الدولة فسيطرت وتسلّمت الدولة بالكامل، وفرضت قوتها على حكومة عادل عبدالمهدي وحكومة الكاظمي.
نصح كثيرون الكاظمي بالتنحي على منوال ما فعل رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي حفاظا على ماء وجهه، ومن هؤلاء الناصحين أحمد ملا طلال المتحدث باسم رئيس الوزراء في مستهل ولايته والذي استقال من منصبه مبكرا، وكذلك الكاتب والأكاديمي العراقي سعد ناجي جواد الذي اقترح على الكاظمي التنحي والإعلان صراحة أنه غير قادر على تحقيق أي شيء، إذ لا هو قادر على محاربة الفساد ولا بمقدوره محاسبة قتلة المتظاهرين أو جعل التنظيمات المسلحة المنتشرة في طول البلاد وعرضها تنصاع لأوامره، وهي التي يفترض أنها تابعة له كقائد عام للقوات المسلحة بموجب الدستور.
أبدى جواد أسفه من أن الأحداث التي جرت منذ تسلم الكاظمي الحكم أثبتت أن المنصب الذي يحتله منذ قرابة سنة أكبر منه بكثير وأنه فشل في كل الأمور التي قال إنه سيتصدى لها ويصلحها. وتساءل “إذا كان الكاظمي عاجزا عن حماية نفسه والقوات العسكرية الرسمية وحكومته والمجمع الحكومي الذي يعمل فيه وسط العاصمة، فكيف يستطيع أن يطمئن الناس على الذهاب إلى الانتخابات بأمان والإدلاء بأصواتهم بحرية في بلد تتسيّد فيه الميليشيات المسلحة المشهد وتعجز الدولة عن مواجهتها؟”. هذه المجاميع التي قامت، بل ونجحت في الأسابيع الأخيرة، في إجبار مرشحين مستقلين من مختلف المحافظات على سحب ترشيحاتهم، ومحاولة اغتيال الذين رفضوا ذلك. واغتالت متظاهرين وناشطين مدنيين في وضح النهار وأمام أعين الأجهزة الأمنية الحكومية، سواء في العاصمة بغداد أو مدن جنوبية أخرى، متظاهرين شباب لم تكن جريمتهم سوى إظهار تذمرهم من تردي الخدمات، وخصوصا الكهرباء، والمطالبة بمحاربة الفساد، ناهيك عما يسببه هذا الانتشار الكبير للسلاح المنفلت من رعب وقلق لأبناء المدن العراقية، وخصوصا العاصمة بغداد.
الواقع، أن الدولة العراقية الحديثة لم تمر منذ بدايات القرن الماضي وحتى ساعة الاحتلال البغيض بمثل هذا الانحدار والانحطاط، بل ولم يشهد العراق مثل هذه الحالة المزرية إلا في حقب حكم المماليك والانكشارية من الأقوام غير العربية التي حاولت الخلافة في العهد العباسي أن تستعين بهم ثم انقلبوا عليها، ثم أصبحت ظاهرة اغتيال الخلفاء أو عزلهم على يد هذه المجاميع التي أصبحت قوتها أكبر من قوة الدولة، ظاهرة اعتيادية آنذاك، الأمر الذي جعل بغداد عرضة لاحتلالات متعددة.
قاسم مصلح، أحد قياديي الحشد البارزين في الأنبار، وقد أشارت الكثير من الدلائل إلى أنه متورط في قتل المتظاهرين والكثير من الناشطين البارزين
تعرضت ثورة أكتوبر العراقية إلى قوة غادرة من أحزاب وميليشيات وحكومات وفساد واغتيال شبابها وقتلهم، كما تعرضت إلى مؤامرات إقليمية حاكتها إيران ودول جوار لا ترغب في عراق قوي، لأن انتصار هذه الثورة سوف يهدد عروش تلك الدول، وهو أمر جعل حكومات العبادي وعبدالمهدي والكاظمي لا تعرف ماذا تفعل بعد أن رفض شباب الثورة التفاوض معها وعدم القبول بكل المغريات التي قدمتها.
يعود القلمجي ليؤكد أنه من دعاة الثورات المسلحة، لكنه يقول “إن شباب الحراك أثبت أن الثورة السلمية أقوى من المسلحة، لأن الواقع على الأرض يقول إن هؤلاء الشباب إذا رموا حجارة فستتخذها الحكومة ومن معها من ميليشيات ذريعة لاستخدام السلاح ضدهم، فكيف إذا حملوا السلاح الذي له شروط والذي هو، لحد الآن غير متوفر”.
إزاء العنف المفرط الذي تواجه به الحكومة الحراك الشعبي، واعتقاد الكثير من الناشطين أن النظام فاسد ولا يمكن إصلاحه ويجب تغييره، هناك بين الثوار من يدعو إلى إشهار السلاح للدفاع عن النفس، إذ أبدى يونس الحاج ثائر وهو من شباب أكتوبر الذين واصلوا الحضور في ساحات الاعتصام والتظاهر، اعتقاده أن على الثوار الاعتماد على أنفسهم والتفكير بخطط جديدة تبتعد شيئا فشيئا عن السلمية التي لم تجد نفعا.
يعتقد ثائرون آخرون أن السلمية عندما تكون نتائجها التهلكة والاغتيال والاعتقال والتغييب، فلا بد أن يتخذ الثوار وسائل للدفاع عن النفس والأهل يتطلبها الواقع وتقرّبهم من تحقيق أهدافهم.
لكن هناك من الناشطين من يرى أن السلمية مازالت مجدية على الرغم من الخسائر التي يتكبدها الثوار بسببها، ولا يؤيد اللجوء إلى السلاح أبدا لأن في ذلك مخاطر كبيرة على أرواح الناس من المتظاهرين ومن أفراد القوات المسلحة الذين هم، في النهاية، عراقيون أيضا.
يتحدث منظمو الاحتجاجات في بغداد عن استخدام تكتيك جديد هذه المرة، يقضي بتوزيع الاحتجاجات على ساحات عدة في العاصمة العراقية، وعدم تركيزها في ساحة واحدة، تفاديا للتضييق الأمني
خلاصة القول: إن النشاط الميليشياوي الإرهابي سيظل سمة ثابتة وسيقدم الحشد في كل يوم، إعلانا استعراضيا في شوارع المدن، ملوّحا بسلاحه مادامت الدولة ضعيفة لا تقوى على مواجهته، فيما سيظل الحراك الوطني يحمل طاقة كبرى مدخرة في مشروعه الواعد. فالصراع الآن صراع إرادة جموع الشعب تحت ثوابت المواطنة أمام الغول الإيراني المتمثل بالحشد وميليشياته الإرهابية. وإذ يصرّح جنرال إيران في العراق، رئيس منظمة بدر هادي العامري بأن “من يريد كسر هيبة الحشد يريد أن يقوّض هيبة الدولة”، فهو یظن أن الحشد هو سور حصين وأنه لولا الحشد لانتصر الشباب منذ أكتوبر 2019، وأن الأحزاب الدينية الحاكمة كلها تحتمي بالحشد وهو درعها.
يبقى أن لجوء الحراك إلى السلاح سيكون خسارة مؤكدة، فالعنف أسوأ الخيارات، والسلاح والذخيرة لدى الحشد الإرهابي فضلا عن دعم إيران وحزب الله اللبناني بزعامة حسن نصرالله لهذه الميليشيات المتغوّلة.
-----------------
الأربعاء 2021/06/02
0 تعليق على موضوع : هل يلجأ الحراك الشبابي العراقي إلى السلاح؟
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات