فرنسا لن تتخلى عن تونس وتتركها وحيدة أمام العاصفة، ولكنها ترى أن على التونسيين أن يساعدوا أنفسهم أولا، وأن يتجاوزوا صراعاتهم وأن يتجهوا للعمل والإنتاج بعد سنوات العبث والاحتجاج.
لم تكن زيارة رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستاكس إلى تونس بتلك الحرارة التي اعتاد عليها الطرفان، وإنما جاءت ضمن أدنى مؤشرات المجاملة بين دولة كبرى ومستعمرتها السابقة،
وكان الهدف منها محاولة اكتشاف الواقع الجديد في بلد الديمقراطية الناشئة بشمال أفريقيا، الرازح تحت الأزمات المتفاقمة، والخاضعة حكومته لميولات الإسلام السياسي الذي لا يخفي رغبته في مغادرة الفلك الفرنسي الفرنكوفوني والانتقال إلى الفلك الأميركي البريطاني الأنغلوفوني المتفهم لتطلعات جماعة الإخوان والملتحقين بمشروعها الأيديولوجي.
قبل أيام، زار الرئيس التونسي قيس سعيد باريس وانتقد من هناك من “يتبجّحون بالإصلاح” في تونس دون تحقيقه، وقال إنّ بلاده “في حاجة إلى أموال وفي حاجة إلى عدالة اجتماعية والقضاء على الفساد”، مشيرا إلى أن تونس “تتوفر فيها كل الثروات ولكن للأسف ما ازدادت النصوص إلا وازداد معها اللصوص”. واعتبر الرئيس سعيد أن المناخ العام في تونس لا يشجع على جلب الاستثمارات، دون أن ينسى الغمز من قناة من قال إنهم يحاولون إحباط جهود عقد القمة الفرنكوفونية التي ينتظر أن تحتضنها جزيرة جربة في نوفمبر القادم.
كانت زيارة رئيس الوزراء الفرنسي مناسبة لجس النبض في تونس التي تشهد منذ سنوات حملات عدائية ضد بلاده، تتزعمها قوى الإسلام السياسي وجيوشها الإلكترونية
زار كاستاكس تونس مع وفد رفيع المستوى للمشاركة في اجتماع المجلس الأعلى للتعاون بين البلدين المحدث بمقتضى الاتفاقية الموقّعة بباريس في 07 أبريل 2015، وكان يمكن أن يتابعها التونسيون كحدث بروتوكولي عادي، لولا طبيعة الأزمة الخانقة التي تمر بها بلادهم، وخاصة على الصعيدين المالي والاقتصادي، والتي باتت تهدد بانفجار اجتماعي حذر منه المراقبون، ولاسيما مع انفضاض الداعمين الدوليين، بعد عشرة أعوام من مسلسل الفشل الذي يحاول المتسببون فيه التغطية عليه بشعارات لم تعد تقنع المانحين الدوليين، كضرورة دعم الديمقراطية الوحيدة في المنطقة لمنعها من الانتكاس، دون الحديث عن الأسباب الحقيقية للأزمة ومنها فشل النخبة السياسية وعلى رأسها تيار الإسلام السياسي، واتساع دائرة الفساد والاحتكار، وعجز الدولة عن التحكم في آليات الإنتاج، وعجز القائمين عليها عن ابتكار رؤى جديدة وأدوات لصناعة الثروة وحل المشاكل من الداخل وتشكيل منوال مغاير للتنمية.
تمر تونس بحالة اختناق مالي واقتصادي، وهي ليست بعيدة عن النموذج اللبناني في تشكل ملامحها كضحية لفساد نخبتها السياسية، وقد تكون أقرب للنموذج اليوناني في الوصول إلى حافة الإفلاس. وحذر محافظ البنك المركزي مروان العباسي، من محاولات الدفع بها إلى النموذج الفنزويلي في حل الأزمة المالية عن طريق التمويل المباشر بنقد دون رصيد حقيقي ما قد يؤدي إلى حالة من التضخم غير المسبوق. وخلال الأسبوعين الماضيين سافر رئيس الحكومة إلى طرابلس والدوحة بحثا عن مساعدات فعلية في ظل تعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على أربع مليارات دولار، مقابل طرح حزمة من الإصلاحات ستكون محل جدل واسع في البلاد.
فرنسا تدرك جيدا أن تونس غير قادرة على مغادرة وضعها المتردي لعدة أسباب منها الصراع السياسي المتفاقم بين الرئاسات الثلاث
انتهى زمن الدول التي تبعثر أموالها في الفراغ، ولاسيما في ظل الأزمة العالمية نتيجة جائحة كورونا، والتي تأثرت بها الاقتصادات الكبرى أكثر من الصغرى، والدول الغنية أكثر من الفقيرة. ومن الوهم أن يستمر العالم في دعم “الطفل الديمقراطي المدلل” الذي لا يريد أن ينمو ويتحمل مسؤوليته، ولا أن يحاسب نفسه على الأموال الطائلة التي تحصل عليها كقروض وهبات دون أن يستثمر منها شيئا للمستقبل، فهناك من الديمقراطيات من بلغ سن الشيخوخة وهو في حالة فقر مدقع.
تركت زيارة كاستاكس وراءها جملة من الاستنتاجات المهمة، أبرزها أن باريس متعاطفة مع الشعب التونسي في مواجهة جائحة كورونا، أكثر من تعاطفها مع حكومته في مواجهة أزمتها المالية والاقتصادية، وأنها تبدو متفهمة لمقاربة الرئيس قيس سعيد، أكثر من مقاربة الحكومة والبرلمان في فهم الأوضاع المتأزمة التي تعرفها البلاد.
وما قاله الرئيس سعيد في مناسبات عدة، وخاصة بخصوص سوء التصرف والفساد وعدم استغلال الإمكانيات الحقيقية للبلاد، لم يأت من فراغ، وإنما هو نتاج لما يصله من تقارير يومية ليس فقط حول ما يدور بالداخل، ولكن وهذا الأهم، حول ما يدور في كواليس السياسة الخارجية، وكيف بات ينظر العالم إلى تونس التي انحدرت إلى نفق الفشل الذريع.
فرنسا ومن ورائها دول الاتحاد الأوروبي، تتابع دقائق الأمور في تونس، وتدرك جيدا أنها غير قادرة على مغادرة وضعها المتردي، سواء نتيجة الصراع السياسي المتفاقم بين الرئاسات الثلاث، أو نتيجة سياسة المغالبة التي يعتمدها تيار الإسلام السياسي في تبني سياسة المحاور الخارجية والدفع نحو الانقسام الداخلي، أو بسبب تراجع أداء الدولة أمام زحف اللوبيات المستأثرة بالجانب الأكبر من الثروة، وعجزها عن تنفيذ الحلول والإصلاحات المستوجبة نتيجة تغول الفاعلين الاجتماعيين.
ستقف فرنسا مع تونس في مساعيها لنيل القرض الذي ترغب فيه من صندوق النقد الدولي، ولكن وفق برنامج الإصلاحات الذي ستعتمده الحكومة، وهذا قرار أوروبي واضح، لتجد السلطات التونسية نفسها أمام الفرصة الأخيرة. فالصنبور لم يعد يتيح التدفق العادي، وإنما بحساب يصل إلى حد التقطير، ولعبة الحصول على القروض وصرفها لغايات انتخابية أو سياسية أو لشراء رضا الجمهور، انتهت، وهذا ما يجمع عليه المانحون الدوليون الذين لطالما انتقدوا أداء الحكومات المتلاحقة منذ 2011 وصولا إلى حكومة المشيشي التي يمكن اعتبارها ضحية لما سبق، ولكنها مطالبة بتحمل المسؤوليات كاملة أمام تفاقم الأزمة.
تونس تمر بحالة اختناق مالي واقتصادي، وهي ليست بعيدة عن النموذج اللبناني في تشكل ملامحها كضحية لفساد نخبتها السياسية
كانت زيارة رئيس الوزراء الفرنسي مناسبة لجس النبض في تونس التي تشهد منذ سنوات حملات عدائية ضد بلاده، تتزعمها قوى الإسلام السياسي وجيوشها الإلكترونية، من باب الاندماج في المشروع الذي تشهده منطقة شمال أفريقيا ودول الساحل والصحراء، ويجتمع فيه الإخوان مع الجماعات الجهادية في مواجهة دور فرنسا وحضورها لأسباب ثقافية بالأساس يحاولون التغطية عليه بشعارات تحرير السياسات وتأميم الثروات، ولكنه في الواقع انعكاس لمحاولات إعادة تقاسم النفوذ، وخاصة بعد انسحاب بريطانيا المرتبطة بعلاقات ودية مع الإسلاميين من الاتحاد الأوروبي، وبروز تركيا كقوة منافسة لفرنسا في دول المنطقة ومنها تونس والجزائر وليبيا، وميل الإخوان إلى نيل التعاطف الأميركي بغاية الاستقواء به على منافسيهم المحليين، متظاهرين بأنهم من يمكن لواشنطن أن تستأمنهم على الديمقراطية والاقتصاد الحر.
لا يمكن القول إن فرنسا قد تتخلى عن تونس وتتركها وحيدة أمام العاصفة، ولكنها تتفق مع دول أخرى عدة، على أن على التونسيين أن يساعدوا أنفسهم أولا وأن يتجاوزوا صراعاتهم، وأن يخرجوا من دائرة التجاذبات الطاحنة لتحديد أولوياتهم، وأن يتجهوا للعمل والإنتاج بعد سنوات العبث والاحتجاج، وأن يرحموا بلادهم من الانقسامات الداخلية ومن محاولات الانقلاب على الدولة الوطنية بما في ذلك خارطة علاقاتها الدولية وسياساتها الخارجية وأولوياتها الدبلوماسية، وأعتقد أن كاستاكس أوصل ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لرئيس الحكومة التونسية.
0 تعليق على موضوع : كاستاكس في تونس وحدود المستطاع
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات