تعكس الأحداث العالمية أو المحلية الكبرى ظلالها على ذائقة المشاهد بحسب قوتها ونوعية تأثيرها، الأمر الذي دفع هوليوود باستمرار لاستقراء الرأي العام وتتبع مسير ذائقته وبوصلة توجهاتها عبر إنتاجات سينمائية تحقق شرطيّ المنفعة المشتركة بين رغبات الجمهور ورأس المال.
لتجنب عامل السرعة في فهم الحدث أو الوقوع في فخ المباشرة، كثيراً مايتم اللجوء إلى التاريخ والاستعانة به كمنهل لاينضب من القصص من تلك التي تسلط الضوء على سير ذاتية أو بطولات فردية أو جماعية تمجد الأفكار العظيمة المتعلقة بالخير أو الحرية أو نضال الشعوب أو غيرها من الأفكار الخلاقة الكفيلة بإعادة شحن الروح العامة وتجديد طاقتها.
أفلام هذا العام التي نافس معظمها على جوائز الأوسكار في دورته الـ 93 الأخيرة لم تخرج كثيراً عن هذا التوجه، ولوحظ أن السمة العامة التي طبعت عدداً منها وترجمت برؤىً وأدوات فنية مختلفة صبت في قناة مناهضة العنصرية المذمومة في كل مكان وزمان، وتمثلت بعدد من الإنتاجات التي تعنى بقضايا مظلومية أصحاب البشرة السوداء والتمييز ضدهم.
وهو توجه عكس المزاج العام والتداعيات المؤثرة التي خلفتها وراءها حادثة مقتل جورج فلويد الشهيرة على يد الشرطة الأميركية في 25 مايو من العام الفائت، بما في ذلك الاشارة للحادثة بشكل غير مباشر ضمن أحد مشاهد فيلم محاكمة سبعة من شيكاغو، عبر سؤال المتهم الأسود الذي يتعرض للضرب من قبل عناصر الأمن في المحكمة إن كان يستطيع التنفس؟؟
واحدة من هذه الإنتاجات ذات الصلة، كان الفيلم الذي حمل اسم Rainey's Black Bottom Ma المعرّب لإسم ( قاع ما ريني الأسود) لمخرجه جورج وولف والمستوحى من مسرحية لأوجست ويلسون حملت الاسم ذاته، وبطولة فيولا ديفيس والنجم الشاب شادويك بوسمان الذي رشح بعد وفاته في أغسطس 2020 لجائزة أوسكار أفضل ممثل منافساً النجم أنتوني هوبكنز الذي أنصف شادويك وصرح إثر فوزه بإنه كان يستحق الجائزة أكثر منه.
يمكن توصيف هذا الفيلم الذي شارك في إنتاجه النجم العالمي دينزل واشنطن بالإنتاج الذكي الذي ابتعد عن الاضاءة على مظلومية أصحاب البشرة السوداء بمواضيع ذات طابع عنيف، مستبدلاً إياها بنوعية أقدر على التأثير في المشاعر، عبر فتح بعض مايختزنه السود من إرث إبداعي عريق، معيداً بسلاسة إحياء ذكرى المغنية "ما ريني" كواحدة من أهم الرموز الإبداعية في ثلاثينات القرن العشرين.
لايتحدث الفيلم بشكل مباشر أو مفصل عن السيرة الذاتية الكاملة لحياة جرترود بردجيت، وهو الاسم الأصلي لملكة موسيقى البلوز الشهيرة باسم "ما ريني" أو "ماما البلوز" التي تركت إنتاجاً غزيراً وصل إلى 100 أغنية مسجلة في اسطوانات، وعرفت بشخصيتها القوية والحادة كواحدة من أكثر نساء عصرها تأثيراً.
بل يستلهم نص المسرحية المشار إليها، ليقدم فيلماً كافياً ووافياً لبناء تصور كامل عن حياة شخصية هذه المرأة الآسرة وآلية تفكيرها التي جعلتها في مقدمة مشاهير عصرها، عبر اقتطاع يوم كامل من حياتها قضته في استديو خاص في مدينة شيكاغو بغرض تسجيل واحدة من أشهر اسطواناتها.
ضمن هذا الاستديو، ستتلخص أحداث القصة السينمائية المدمجة بالأسلوبية المسرحية، بين أصحاب الاستديو من البيض، وباقي أعضاء فرقتها الموسيقية من العازفين السود الذين سيضطرون إلى إجراء التمرينات في شروط غير صحية ضمن قبو معتم ورطب وخانق ينتهي بباب موصد مسدود الأفق.
سيساهم القبو كمكان برمزيته في ازدياد وتيرة الضغط النفسي الواقع على الشخصيات، ونكىء جراح قديمة عبر حوارات تماهي المكاشفات الموجعة التي تسترجع بعض الذكريات الشخصية تلخص محطات من التاريخ العنصري واضطهاد الرجل الأبيض للسود، قبل النهاية التراجيدية التي ستتفجر على يد عازف البوق شادويك والذي يمثل بموهبته التيار الشاب بجموحه وعنفوانه وأفكاره الحديثة الخلاقة، والكثير من القهر المختزن في الذاكرة وخيبات الأمل.
في المقابل، ستمارس ما ريني التي تنتظر في الطابق العلوي نزقا مشروعاً وتفرض شروطها على الرجل الأبيض كما تشاء، وستقدم أنموذجاً مغايراً عن أسلوبية الدفاع عن الحقوق، يتلخص بمفهوم الندية الذي يؤدي إلى تفاوض عادل قدر المتاح، منطلقة من خبراتها المتراكمة وإيمانها بقوة ماتفعله وشعبيتها وتأثير فنها في البيض والسود معاً، وإدراكها العميق لحاجة الرجل الأبيض إلى صوتها الذي يجني منه ثروات باهظة.
أسلوبيتان لمواجهة الحياة يقدمهما الفيلم جنباً إلى جنب، تاركاً للمشاهد تقييم الأصلح لسياسة مظلوميته، إما العنف الذي لايولد إلا العنف ويراكم القهر والضحايا والخسائر، أو النضال عبر السبل والأدوات السلمية من بينها الفنون، شرط أن تسعى لتصبح أدواتك السلمية هذه سلاحاً نافذاً ذي تأثير حقيقي لتتمكن من فرض شروطك في المكان والزمان المناسبين.




0 تعليق على موضوع : دروس ماما البلوز المستفادة
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات