لأكثر من عقدين ونصف، لعب توقيت عرض أحدث الإنتاجات الدرامية العربية ضمن المنافسة الرمضانية، دوره كأحد العوامل البارزة في الاستقطاب الجماهيري ونسب المشاهدة العالية لهذه الأعمال.
وبعد جهد وضغط كبيرين مورسا لسنوات من قبل الصحافة النقدية الفنية، راجعت بعض المحطات العارضة خططها وسياساتها، وعادت لتعرض إنتاجات جديدة ذات سوية عالية خارج الموسم الرمضاني، وهي خطوة قوبلت برضا جماهيري، وأنصفت الدراما ومكانتها، كضيف مرغوب ومرحب به لمشاركة السهرات العائلية طوال أشهر السنة، بعيداً عن فوضى الازدحام الرمضاني التي لاتوفر المشاهدة المنصفة أو القراءة الصحيحة للمحتوى.
كثيرة هي الأمثلة التي تحررت من الطوق الرمضاني وفرضت نفسها كأعمال جيدة وناجحة في العامين الفائتين، كان آخرها مسلسل عروس بيروت الذي انتهى عرض حلقات موسمه الثاني قبل يومين، ولاقى كأحدث الأعمال الطازجة حظه الوافر من الاستقطاب والمشاهدة الجماهيرية، وساهمت جائحة كورونا عن دون قصد، في دعم هذه النسب العالية من المتابعة، مع بقاء معظم الناس في بيوتها في مثل هذه الأوقات، سواء في لبنان، أو في معظم الدول العربية.
عروس بيروت، أو ما أنتج بصفته النسخة العربية من مسلسل عروس اسطنبول، مسلسل واحد أنتجته MBC بنسختين ذات هويتين تنتمي كل منهما إلى بيئتها، قام نجوم أتراك ببطولة نسختهم، فيما حظيت النسخة البيروتية بلهجة أهلها، بتنويع أكبر وأكثر غنى، ضم نجوماً من لبنان وتونس وسوريا، دون تغيير في محتوى القصة والأحداث التي قادها الجانب التركي إخراجياً.
المتابع لحلقات هذه الدراما بجزئيها، سيلاحظ التطور النوعي الذي طرأ على حلقات الموسم الثاني وحققت بموجبه هذا الاستقطاب والنجاح الملفتين، وبدا أن صناع العمل استفادوا جيداً من النقد الإعلامي والجماهيري الذي واجهه الجزء الأول في حينه، وتلافوه في الجزء الثاني بوضح، حيث لم يكن تصاعد الأحداث وتشويقها، أو استبدال المخرج وبعض النجوم بآخرين مخضرمين، الأسباب المباشرة التي ساهمت في دعم هذا النجاح الجديد فقط. بل في تلك الوصفة السحرية التي تكمن عادة في روح أي عمل فني وتساهم في رفعه وتميزه أو العكس. وهو ماتم العمل عليه بكفاءة في حلقات الموسم الثاني، والاجتهاد البارز في التفهم الأعمق لروح الخصوصية اللبنانية، التي ساهمت في تحرير الممثل من عبء النص التركي، والخروج بهوية لبنانية دون إدعاء، وأكثر صدقاً وإقناعاً.
تنتمي دراما عروس بيروت إلى النوع الاجتماعي الذي يلقى عادة قبولاً واستقطاباً أكبر من قبل المشاهد العربي والعالمي معاً، وتتمحور القصة هنا حول الحب كثيمة رئيسة، تنشط وتكتسب جوهرها الأسمى ضمن مفهوم العائلة المحبة، واحترام القيم والعادات، والتضامن في وجه أصعب الشدائد، وماتلعبه العائلة المتماسكة من دور أساسي في بناء الصحة النفسية لأبنائها على المدى الطويل. وهي معانٍ سامية تتوق إليها الأسرة العربية وغير العربية، يمكن للدراما بما تمتلكه من جاذبية لدى المشاهد، أن تساهم في رفدها وتكريس معانيها النبيلة ولعب دورها البناء والمحوري في تعزيزها، وبخاصة الحاجة إليها في مثل هذه الأوقات الصعبة من تزامن جائحة كورونا، مع انهيار قيم عائلية وممارسة سلوكيات عنيفة مجتمعية تم رصدهما بأرقام ملفتة ضمن الأسرة العربية والعالمية معاً.
أحد أبرز الرسائل الدرامية الإيجابية الهادفة التي تضمنتها حلقات الموسم الثاني من عروس بيروت، هي تلك الأفكار البسيطة العميقة التي تعبر بيسر وسهولة بين الحوارات والمندرجة في إطار هدف درامي تنويري، من مثل الإضاءة المتكررة على رغبة الوالدين بإنجاب "بنت" تحديداً، وعدم التمييز مع جنس الصبي في مواقف متعددة، ومنحهما داخل الأسرة العدالة المتساوية من الحب والحقوق.
فضلاً عن أهمية الدور الذي رُسمت ملامحه بعناية فائقة لشخصية المرأة-الأم، ولعبته بحرفية ورشاقة درامية عالية النجمة اللبنانية تقلا شمعون، كشخصية نسوية قيادية متوازنة وذات تأثير هام في محيطها الخاص والعام، دون أن يسهو النص عن أهمية التعليم والعمل في حياة المرأة، ودورهما في تعزيز التشاركية الاجتماعية والانتاجية.
قصص الحب الكثيرة التي رسمت الخطوط العريضة لمسلسل عروس بيروت، لم تبخس المرأة الكبيرة الوحيدة أو الرجل الكبير الوحيد، وأنصفت حقهما بالحياة وحاجتهما المستمرة للحب والشراكة، دون الاكتراث بتقدم العمر أو التوقف عند ثرثرة المجتمع، وهي واحدة من أفكار بناءّة كثيرة وردت في سياق العمل وطُرحت بصراحة وشفافية، ونجح في ترجمتها جميع نجوم العمل بانسجام ملفت منح الموسم الثاني بصمته الخاصة.
من المشجع أن يتقبل صناع الدراما النقد بصدر واسع لتحسين المحتوى، ومن المشجع أيضاً أن يُعنى بالمحتوى في كل الأزمان لأجل خدمة دراما نظيفة تضع في الاعتبار الأولويات المستجدة وتطور الحياة الحديثة ووسائلها ومنصاتها.
0 تعليق على موضوع : أفكار تنويرية مطلوبة في الدراما العربية
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات