المعروف أنّ الكتاب المعنون: بمشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، هو للمفكر الجزائري المعروف مالك بن نبي، وقد كتبه بمصر عندما كان منفياً فيها خلال حرب التحرير الجزائرية (1954-1962).
ومالك بن نبي متميزٌ على أبناء عصره في أنه كان معنياً بالدرجة الأولى ليس بتوصيف التخلف والانحطاط في مجالنا الحضاري وحسب؛ بل وباقتراح تصورات وأفكار لاستعادة النهوض واستئناف الحضارة.
عندما توفي مالك بن نبي عام 1975، كان قد مر بتجربةٍ قصيرةٍ في العودة إلى الجزائر بعد الاستقلال، ثم ما لبث ان عاد إلى المشرق، إلى سورية، حيث أقبل على نشر كتبه التأملية والمتشائمة. وأذكر أنني أجريتُ مقابلةً معه لمجلة الفكر الإسلامي التي كانت تصدرها دار الفتوى بلبنان عام 1971، وكان همه النزوع الاحتجاجي الذي بدأ يتفشى بين الشبان المتدينين، والذي يخشى منه على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وعلى الرؤية الإصلاحية والنهضوية للإسلام.
ثم إنه ما بقي في المجال الثقافي والحضاري، بل قال إنه نابع من مصر النهضة التي تحققت بفضل ثورة 23 يوليو 1952، والدور المركزي الذي صارت تلعبه مصر من خلال مؤتمر باندونغ(1955)، والفكرة الأسيوية- الأفريقية، وجبهة عدم الانحياز والحياد الإيجابي. فعندما تدخل البلدان العربية الكبرى والوسطى مثل مصر والمغرب والسعودية والعراق والجزائر بعد الاستقلال، في العالم الجديد الذي يُصنع في الصين والهند وإندونيسيا ويوغوسلافيا يظهر مجال استرايتجي وحضاري هائل، لا يكون تابعاً لإحدى القوتين العالميتين، ويستطيع أن يفرض توازُناً على مستوى العالم من أجل السلام والنهوض والتنمية الاقتصادية في دول العالم الثالث.
كل هذه التصورات، ظهرت في عناونين كتب مالك بن بني بين 1955و 1965.
كل هذه التصورات، ظهرت في عناونين كتب مالك بن بني بين 1955و 1965.
أما في كتاب " مشكلة الأفكار" ذاته فقد اعتبر بن نبي أنّ الانحطاط الحضاري والسياسي الذي حصل وتنامى في حقبة ما بعد الموحِّدين (الدولة الغربية التي مدت سيطرتها إلى الأندلس) أدخل الأمة في حِقَب "القابلية للاستعمار". ولذلك، ومنذ القرن السابع عشر وما بعد حصل انكماشٌ شديدٌ مكّن الاستعمار الأوروبي من الاستيلاء على كل العالم الإسلامي تقريباً. والخروج من القابلية للاستعمار، يكون باستعادة مقومات الحضارة، وبتحرير الروح والإرادة من الغلبة الاستعمارية، وبالاندفاع للامتداد باتجاه عوالم الحرية التي تتبلور في آسيا وإفريقيا.
عندما توفي مالك بن نبي عام 1975، كان قد مر بتجربةٍ قصيرةٍ في العودة إلى الجزائر بعد الاستقلال، ثم ما لبث ان عاد إلى المشرق، إلى سورية، حيث أقبل على نشر كتبه التأملية والمتشائمة. وأذكر أنني أجريتُ مقابلةً معه لمجلة الفكر الإسلامي التي كانت تصدرها دار الفتوى بلبنان عام 1971، وكان همه النزوع الاحتجاجي الذي بدأ يتفشى بين الشبان المتدينين، والذي يخشى منه على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وعلى الرؤية الإصلاحية والنهضوية للإسلام.
اعتقد مالك بن نبي في سنوات حياته الأخيرة، أنّ المشكلة ليست في الأفكار، بل في تفرّق الدول الكبرى التي ينبغي أن تقيم "متَحدَ" الحرية والنهوض، وزرع إسرائيل في الديار العربية، والتصدعات التي ظهرت في الدول الوطنية لأسباب متعددة. والثقة بالدين أمرٌ جيد؛ لكنّ الاعتقاد أنّ الإسلام عنده حلٌّ للمشكلات هو وهمٌ مكْلفٌ كثيراً، لأنّ الإسلام ما تسبب في مشكلات الحداثة والنظام الدولي، ثم إنه لا يمتلك حلاًّ لها!
وما كانت هذه وجهة نظر معظم المفكرين العرب المعاصرين. فقد قالوا مثل مالك بن نبي بانحطاط الألف عام، وزادوا عليه بأنّ هذا الموروث ما يزال مسيطراً في الأذهان والتصرفات، وهو الحائل دون الدخول في الحداثة. صادق جلال العظم علَّل حتى هزيمة العام 1967 بسواد العقلية الخرافية والخزعبلات الدينية! وفي المؤتمر الذي انعقد بالكويت عام 1974 وحضره عشرات المفكرين العرب اليساريين والليبراليين، وكان عنوانه: "الأزمة الحضارية في العالم العربي"، كان هناك إجماع على أنّ الموروث الذهني والثقافي يشكّل عقبةً كأداء. وقد بلغ الوهم ببعض كبارهم اعتبار "الصحوات"جزءًا من يقظة الموروث المتأخرة والرجعية، واستعادة لأمجاد وذكريات العصور الوسطى!
وعلى أي حال؛ ففي حين مَرَّ مالك بن نبي بمرحلة تفاؤل بسبب حركة التحرر من الاستعمار، وبروز دول كبرى حرة في آسيا وإفريقيا والعالم العربي؛ فإنّ مفكري اليسار العربي في الستينات والسبعينات، وهم يرون نهوض الصحويات الدينية، كما يتابعون الثورة الثقافية لماوتسي تونغ في الصين، ما عادوا يرون علةً لمشكلات العرب غير الموروث الديني والثقافي. وهي علةٌ لا يمكن الخلاص منها ما دامت قد بدأت قبل ألف عام.
ما هي علاقات أفكار المثقفين بالواقع أو تأثيرها فيه؟ تؤثر الأفكار والتصورات والخطط بالواقع بقدر ما يكون التشخيص صحيحاً. والتشخيص بألفية الانحطاط، وسطوة الموروث، كلاهما غير دقيق، بل غير صحيح. فحتى الظاهرة الإسلاموية هي ظاهرةٌ حديثةٌ، ولا علاقة لها بالموروث إلاّ بشكلٍ رمزي. ولأننا رفضنا الفهم والاستيعاب والتجاوز، لصالح القطيعة المعرفية والعداوة الأيديولوجية؛ فقد أخلينا الساحة للصحويين وغيرهم من الذين نصبوا أنفسهم متحدثين باسم الإسلام. قال لي عبد الوهاب المسيري: ميزة جيل الخمسينات والستينات الأفكار والمشروعات وتعدديتها، ومشكلة جيل الثمانينات وما بعد ضآلة الأفكار أو انعدامها!
radwansayyed@gmail.com
www.ridwanalsayyid.com
جريدة الاتحاد في صفحة وجهات نظر يوم الاحد في 26/1/2020
وما كانت هذه وجهة نظر معظم المفكرين العرب المعاصرين. فقد قالوا مثل مالك بن نبي بانحطاط الألف عام، وزادوا عليه بأنّ هذا الموروث ما يزال مسيطراً في الأذهان والتصرفات، وهو الحائل دون الدخول في الحداثة. صادق جلال العظم علَّل حتى هزيمة العام 1967 بسواد العقلية الخرافية والخزعبلات الدينية! وفي المؤتمر الذي انعقد بالكويت عام 1974 وحضره عشرات المفكرين العرب اليساريين والليبراليين، وكان عنوانه: "الأزمة الحضارية في العالم العربي"، كان هناك إجماع على أنّ الموروث الذهني والثقافي يشكّل عقبةً كأداء. وقد بلغ الوهم ببعض كبارهم اعتبار "الصحوات"جزءًا من يقظة الموروث المتأخرة والرجعية، واستعادة لأمجاد وذكريات العصور الوسطى!
وعلى أي حال؛ ففي حين مَرَّ مالك بن نبي بمرحلة تفاؤل بسبب حركة التحرر من الاستعمار، وبروز دول كبرى حرة في آسيا وإفريقيا والعالم العربي؛ فإنّ مفكري اليسار العربي في الستينات والسبعينات، وهم يرون نهوض الصحويات الدينية، كما يتابعون الثورة الثقافية لماوتسي تونغ في الصين، ما عادوا يرون علةً لمشكلات العرب غير الموروث الديني والثقافي. وهي علةٌ لا يمكن الخلاص منها ما دامت قد بدأت قبل ألف عام.
ما هي علاقات أفكار المثقفين بالواقع أو تأثيرها فيه؟ تؤثر الأفكار والتصورات والخطط بالواقع بقدر ما يكون التشخيص صحيحاً. والتشخيص بألفية الانحطاط، وسطوة الموروث، كلاهما غير دقيق، بل غير صحيح. فحتى الظاهرة الإسلاموية هي ظاهرةٌ حديثةٌ، ولا علاقة لها بالموروث إلاّ بشكلٍ رمزي. ولأننا رفضنا الفهم والاستيعاب والتجاوز، لصالح القطيعة المعرفية والعداوة الأيديولوجية؛ فقد أخلينا الساحة للصحويين وغيرهم من الذين نصبوا أنفسهم متحدثين باسم الإسلام. قال لي عبد الوهاب المسيري: ميزة جيل الخمسينات والستينات الأفكار والمشروعات وتعدديتها، ومشكلة جيل الثمانينات وما بعد ضآلة الأفكار أو انعدامها!
radwansayyed@gmail.com
www.ridwanalsayyid.com
جريدة الاتحاد في صفحة وجهات نظر يوم الاحد في 26/1/2020
0 تعليق على موضوع : من "مشكلة الأفكار" إلى مشكلات انعدامها!
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات