تبدو الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة هذه المرّة مثيرة للمخاوف بشكل غير مسبوق، لا سيّما مع ضبابيّة المشهد الداخليّ، والتقارب الكبير جدًّا في استطلاعات الرأي بين المرشّحين الجمهوريّ والديمقراطيّ، وعدم مقدرة أيّ منهما على إحداث تغيير جذريّ في توجّهات الناخبين الأميركيّين.
انتظر الأميركيّون المناظرةَ الأولى، بأمل أن يُظهِر أحدهما مقدرةً فائقة تستقطب من كتلة الآخر التصويتيّة ما غيَّرَ الأوضاع ويعدّل الطباع لدى مزاج الأمريكيّين، غير أنّ النتيجة ذهبت بعيدًا عن ذلك، فمناصرو ترامب باتوا يتمترسون وراء دعمهم لساكن البيت الأبيض حتّى لو أطلق الرصاص على قدمَيْ مواطن أمريكيّ في مانهاتن على حدّ تعبيره، وبالقدر نفسه فإنّ الذين يقفون حدّ المرشح الديمقراطيّ بايدن يفعلون الشيئ نفسه ، حتّى ولو من غير قناعة تامّة بكفاءة نائب الرئيس السابق، لكنّها المكايدة السياسيّة الفاعلة في زمن الانتخابات الأمريكيّة.
في ظلّ هذا الوضع تبقى الكلمة الفصل عند الولايات المعروفة بأنّها متأرجحة ... ماذا عن ذلك؟
باختصار غير مخلٍّ، تبقى هذه الكتلة من الولايات غير مؤدلَجة بدرجة كبيرة، بمعنى أنّها ليست حمراء ولا زرقاء، أي ليست ديمقراطيّةَ الهوى بالمطلق، ولا جمهوريّة التوجه إلى نهاية المطاف، بل متأرجحة بين هذا وذاك. ومن هنا تطفو على السطح أهمّيتها بالنسبة لكلا المرشَّحَيْن، واللذَيْن يعملان جاهدين على استمالة أكبر قدر منها إلى جانبه، عسى تكون له جسرًا يعبر عليه إلى الانتصار.
هل من حصر لهذه الولايات ؟
هناك ما هو مؤكّد منها مثل ولايات اريزونا وفلوريدا وميشيغان وبنسلفانيا وويسكونسن ، وهناك من يرى من خبراء الانتخابات الامريكية ان ولايات مثل نيوهامشير ونورث كارولينا وحفنة من ولايات اخرى يمكن ان تعتبر من ضمن المتارجحة بالفعل .
ولعله من المهم التذكير بان اختيار الرئيس الامريكي لا يتم عبر الاقتراع المباشر من قبل المواطنين ، وانما من خلال اعضاء المجمع الانتخابي ، اولئك الذين يلتئم شملهم لاحقا ليصوتوا بناء على توجه غالبية الناخبين في ولاياتهم .
يحتاج المرشَّح الامريكيّ للفوز بمقعد الرئاسة إلى 270 صوتً ثُمْن أصوات المجمع الانتخابيّ، والمعروف أنّ عدد أعضاء المجمع الانتخابيّ لكلّ ولاية يعتمد على عدد السكان، فعلى سبيل المثال، تمتلك ولاية فلوريدا نحو 29 صوتًا انتخابيًّا، ما يساويها بنيويورك، وإن تسبقهما كاليفورينا وتكساس. وعليه فإنّه إذا كانت ولاية فلوريدا ولاية متأرجحة، فإنّ الذي يفوز بها ستكون فرصُه أفضل في الفوز بالرئاسة الأمريكيّة لأربع سنوات أخرى.
الأرقام التقريبيّة وليست الدقيقة بشكل مطلَق تخبرنا بأنّ الجمهوريّين يضمنون حتّى الساعة نحو 170 صوتًا، من 22ولاية ذات ميول جمهوريّة، فيما الديمقراطيّون يستَبِقونهم بعدد إجمال أصوات مؤكّد يبلغ نحو 233 مندوبًا من 21 ولاية ديمقراطيّةِ التوجُّه. ولهذا يبقى الصراع قائمًا على 135 مندوبًا موزَّعِين على 8 ولايات متأرجحة.
لماذا تكتسب الولايات المتأرجحة في انتخابات هذا العام أهمية كبرى وغير مسبوقة عن الانتخابات الرئاسيّة السابقة على الأقلّ في العقدَيْن الأوّل والثاني من القرن الحادي والعشرين؟
قد تكون هناك مجموعة من العوامل وليس عامل واحد، وفي المقدّمة منها حالة الاحتقان الشديدة والمريرة التي وصل إليها النسيج المجتمعيّ الأمريكيّ من جرّاء تشارعات وتنازعات على أسس من العرق، كما رأينا في المواجهات بين الأمريكيّين الأفارقة والبيض الأنجلوساكسون الأشهُر القليلة الماضية. وهناك إشكاليّة التفاوت الطبقيّ المتراكمة حوادثها وأحداثها، عطفًا على كارثة الشقاق الإيديولوجيّ ما بين يسار راديكاليّ، ويمين أصوليّ، وكلاهما من أسف شديد يتجهّز لمواجهة عنيفة دمويّة عقب الانتخابات ، بذريعة التزوير، وبخاصّة إذا جاءت النتائج متقاربة.
تمتلك الولايات المتأرجحة القولَ الفصل، ذلك حال أنّها توجَّهتْ بشكل قاطع إلى دعم مرشّح بعينه، فإنّها تختصر طريق الصدام في الزحام، وتمنع الاحتكاك في الظلام، على الساعين للإضرار بحالة الاتّحاد الأمريكيّ، وإنهاء مشهد السباق مرّةً وإلى غير رجعة.
والثابت أنّه إذا عدنا إلى الأرقام المتقدّمة، سنجد أنّ الرئيس ترامب يحتاج للفوز للحصول على 100 صوت من إجماليّ ال 135 صوتًا المتأرجحة أو ما نسبته 74% على الأقلّ، وذلك بافتراض فوزه بكلّ الولايات المؤيِّدة تقليدًا للجمهوريّين.
تحتاج الولايات المتّحدة الأمريكيّة لعبور برّ الأمان إلى تجاوز الناخبين في الولايات المتأرجحة خطّ الانتماء الحزبيّ المجرّد، بمعنى أنّ الناخبين الذين سيوجّهون دَفّة البلاد في اختيار الرئيس القادم، لن يكونوا من بين المستقطبين حزبيًّا، لكن المقترعين على أسس إيديولوجيّة وعلى تقييم منطقيّ وعقلانيّ لموثوقيّة المرشحَيْن، وبمعنى آخر أنّ الناخبين الكارهين لنظام الحزبَيْن والرافضين لفكرة الاستقطاب البدائيّة، هؤلاء هم من سيكون بأياديهم مفاتيح الفوز أو الإخفاق بالنسبة لأيّ من المرشَّحَيْن.
بنوع خاصّ، قد تكون ولاية فلوريدا في 3 نوفمبر القادم هي حجر الزاوية الذي تترسّخ عليه الوحدة الأمريكيّة، أو تتحطّم هناك الأحلام، فقد كانت عادة مرجّحة لمرشّح أو لآخر، وميولها متقلّبة بشكل واضح، ففي عام 2000 كانت جمهوريّة الهوى، وإن جاءت نتيجتها بحكم من المحكمة العليا، فيما مالت إلى جانب المرشّح الديمقراطيّ باراك أوباما في العام 2008.
ولأنّ الفائز في ولاية فلوريدا يفوز بالرئاسة في كلّ سباق رئاسيّ منذ العام 1974، فإنّ ذلك يُضفِي عليها غموضًا خاصًّا وجذّابًا في الوقت عينه، ويجعلها حصان طروادة للدخول إلى البيت الأبيض.
وبالعودة إلى التقسيمة الإحصائيّة في ولاية فلوريدا، نجد أنّ هناك 37% من الناخبين ديمقراطيّون، و35% جمهوريّون، و27% لا ينتمون إلى أيٍّ من الحزبَيْن. وعلى هذا الاساس سيبقى المستقلّون هم العنصر المرجَّح في الولاية ، وبالقدر ذاته في كلّ ولاية متأرجحة.
هل المرحلة العمريّة للناخبين هذه المرّة ستُعَدّ عاملاً مهمًّا في بلورة نتيجة انتخابات ساخنة وملتهبة؟
ذلك كذلك بالفعل، إذ سيكون واحد من بين كلّ عشرة أمريكيّين يحقّ لهم التصويت في الانتخابات العامّة القادمة جزءًا من جيل جديد ضمن ما يُعرَف بالجيل "زِدْ" Z.
ومعظم المنتمين إلى هذا الجيل وُلِدوا بعد عام 1996، ما يعني أنّ اكبرهم عمرًا يبلغ الآن نحو 23 عامًا. وبحسب مركز بيو للأبحاث، فإنّ 24 مليونًا من الجيل المشار إليه ستكون لديهم فرصة للإدلاء بأصواتهم في 3 نوفمبر القادم، وهم كتلة ترجيحيّة ستكون لهم كلمتهم هذه المرّة، فيما قوّتهم ونفوذهم السياسيّ سيستمرّان في النموّ بشكل مطّرد خلال الأعوام المقبلة مع بلوغ المزيد منهم سنّ التصويت.
من هنا نتساءل: "هل جيل الشباب "زد"، لا سيّما في الولايات المتأرجحة سيكونون الحَكَم والفيصل في الاختيار ما بين ترامب وبايدن؟
ربّما يكون الأمر بالفعل على هذا النحو. وفي كلّ الأحوال تبقى متغيّرات المشهد الأمريكيّ مثيرة وسريعة يومًا تلو الآخر. ويبدو أنّ أكتوبر يحمل في جعبته الكثير من المفاجآت، وغدًا ناظره قريب
0 تعليق على موضوع : الولايات المتأرجحة وحَسْم سباق الرئاسة الأميركيّة
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات