ثقيلٌ جدا مر العام المنصرم على حياتي؛ قطفَ منها ما قطف، وخطفَ من قلبي ما خطف. راوغني كثيرا، وخدعني بقليلٍ من الإنجازات والانتصارات الصغيرة التي فرحت بها، قبل أن تحين اللحظة الحاسمة التي اكتشفت فيها أن كل ما أنجزته وحققته لا يساوي شيئا أمام لحظة حزنٍ واحدةٍ على فقيدٍ لم أعد أستطيع رؤيته، ولا سماع صوته، فالموتى قساة، يرحلون في رحلات ذهابٍ باتجاهٍ واحدٍ عادة، ولا يتركون وراءهم أي أملٍ إلا على سبيل اللحاق بهم ذات يوم.. قريب أو بعيد!
لست من الذين يحمّلون الزمن عادة ما يواجهني من رزايا، ولكنها مناسبة نهاية العام الثقيل هذا التي تجعلني أجسّد خصمي المجهول في صراع الحياة به، فأربطه بمن رحل في خضمّه، ليصبح أهم الأحداث بالنسبة لي.
رحل العام المنصرم، بعد أن رفع راية انتصاره في وجهي، ومضى متلمظا وهو يحصي غنائمه التي هي اقتطعها من كياني كله بلا حول ولا قوة لي. ولم أكن أظن أنني سأبقى على قيد الأيام، بعد فقداني لها، أو لبعضها، ولو يوما واحدا. لكنني بقيت على سبيل الأمل وحده كما أظن. بقيت بعد أن لملمت أشلائي الممزقة، وأوراقي التي بعثرتها رياح الحزن، وبللتها دموع الفراق، ففضحتني أمام نفسي، إذ كنت أتوهم قوةً خرافيةً في مجابهة كل ما تفاجئني به الحياة من أخبارٍ سيئة، فإذا بي أنطرح أرضا وبكاءً بعد كل خبر يختمه أحدهم، وهو ينقله إلي بعبارة "البقية في حياتك".
لا أدري أي نوعٍ من العزاء تحمله تلك العبارة المغرقة في أنانيتها.. لكنه العزاء المعتاد؛ أن نتمنّى مراكمة سنوات الآخرين التي تركوها وراءهم على أعمارنا، لتمتدّ وتطول، وكأننا مثلا نملك ذلك الخيار أصلا. بقايا سنواتٍ كثيرة تمنى الآخرون أن تضاف لحياتي، فما ازدادت حياتي إلا خساراتٍ، عبّرت عن نفسها بنصالٍ تكسّرت فوق نصالٍ على أرض الجسد المنهك بسنواته التي تربو على الخمسين في عداد السنين وعلى الملايين في عداد الحزن والشجن والحنين.
أحباء كثر رحلوا، فتركوا ثغراتٍ في روحي، لا أظن أنني سأنجح في ملئها من جديد.. ستبقى تلك الثغرات مفتوحةً دائما، تسكنها الذكريات وحدها، لكن الذكريات، حتى وإن كانت جميلةً ومفرحةً وثريةً بالكلمات والقصائد والحكايات، لا تملأ فراغا بقدر ما تعزّز كل فراغ تجد نفسها ساكنته الوحيدة، ثم إن الذكريات غالبا تخشى النصال، حتى وإن كانت متكسّرة، فلا أمل في استخدامها سلاحا في وجه النصال، ولا مادة لسد الثغرات ولملئها.. هي فقط من وسائل الأمل العنيد الذي يُبقينا على قيده، لنواصل الحياة، ونواجه مصائرنا فيها وحدنا إن كنا ندّعي الشجاعة والحكمة والإيمان.
معضلتي الحقيقية في رحيل من أحب من البشر أنني لم أعد قادرةً على التعويض، كما كنت أفعل في الماضي. وربما لا أريده، ولا أريد حتى المحاولة، ليس لإيماني بمن رحل، بعد أن كان يملأ قلبي بوهجه الفائض عن كل حدّ بشريّ لا يمكن إلا أن يكون فريدا من نوعه، حتى أنه لا يعوض وحسب. ولكن أيضا لأنني أصبحت أخاف من أي علاقةٍ إنسانيةٍ تربطني ببشرٍ من هذا النوع، ثم تكون النهاية هي ذلك الرحيل الأبدي. وربما لأنني أصبحت أعيش المرحلة العمرية التي أفقد فيها من الناس حولي أكثر من قدرتي الطبيعية على التعويض، فلا جدوى، إذن، من ممارسة تلك اللعبة البائسة التي لا تنتهي إلا بخسارتي أصلاً.
0 تعليق على موضوع : خسائري في عام مضى // بقلم : سعدية المفرح
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات