يقولون فى الأمثال إن غلطة الشاطر بألف، وهاهو رئيس الوزراء العراقى حيدر العبادى يقع فى خطأ جسيم -بمعايير التجاذبات السياسية- ومن شأن هذا الخطأ أن يضع المزيد من العراقيل أمام فوزه بولاية ثانية. فى معرض تعليقه على العقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران ذكر العبادى إن هذه العقوبات ظالمة، وإن العراق سبق أن عانى من استخدام سلاح العقوبات ضده، لكنه مع ذلك وحرصا على مصلحة العراقيين سوف يلتزم بها. قالها العبادى فقامت الدنيا ولم تقعد، وتجاوزت ردود الأفعال الإيرانية الرسمية حد توبيخه بعنف ووصفه بالانهزام أمام أمريكا إلى المطالبة بأن يدفع العراق لإيران تعويضا عن حرب السنوات الثمانى بل وعن الأضرار التى لحقت بإيران من جرّاء حرب الخليج الثانية. حاول العبادى التخفيف من وقع تصريحه المفاجئ بالقول إنه أسيء تفسيره لأنه كان يقصد أن يتوقف العراق عن التعامل مع إيران بالدولار وليس بالعملات الأخرى وأن الشركات الإيرانية مستمرة فى العمل داخل العراق لكن دون جدوي، وفى الواقع فإن الولايات المتحدة وهى تطالب شركاءها الأوروبيين بدعم العقوبات على إيران فإنها تعرف جيدا أنهم يتعاملون باليورو، لكنها تحاول حرمان إيران من العملة الصعبة بشكل عام.
لقد قارن المدافعون عن إيران بين موقف العبادى -الذى سبق توضيحه- وبين مواقف روسيا والصين والهند وجميعها رفض العقوبات الأمريكية فجاءت المقارنة فى غير صالحه، كما جاءت أيضا فى غير صالحه المقارنة بين موقفه وبين موقف الأردن فى التسعينيات عندما طلب استثناءه من الحصار المفروض على العراق.
وفوق ذلك فإن مبادرة العبادى بهذا التصريح دون تشاور مع أى من مؤسسات صنع القرار فى العراق أضافت سببا آخر لانتقاده، ومن جانبه التقط نورى المالكى -الخصم القوى للعبادي- طرف الخيط فاستقبل السفير الإيرانى لدى العراق ليجدد رفضه العقوبات ويدعو المجتمع الدولى لمعارضة سياسة تجويع الشعوب.
لم يكن طريق العبادى إلى رئاسة الوزارة مفروشا بالورود قبل هذا التصريح، فمن اللحظة التى أُعلِنَت فيها نتائج الانتخابات وهو يواجه عقبة تلو أخري، بدأ الأمر مع التشكيك فى النتائج وما أحاط بذلك من ملابسات وصولا إلى الفرز اليدوى للأصوات، وانتهى بالاحتجاجات الشعبية المتواصلة التى حوّلت الأنظار عن الإنجازات التى حققها فى محاربة الإرهاب وفى الحفاظ على وحدة الدولة العراقية. وفى غضون ذلك لم تكن المشاورات مع الكتل السياسية سهلة، فبينه وبين زعيم ائتلاف دولة القانون ما صنع الحداد، وهو يختلف فى رؤيته السياسية مع كتلة الفتح خصوصا لجهة العلاقة مع إيران، والأكراد لا يحملون له ودا كبيرا بعد فشلهم فى الانفصال، ومع أنه قريب من رؤية كل من تيار الحكمة وائتلاف سائرون لكن مقتدى الصدر وضع قائمة طويلة من الشروط المطلوبة فى رئيس الوزراء يكفى واحد منها فقط ليبعده عن سباق رئاسة الحكومة، فلقد اشترط الصدر فى رئيس الوزراء ألا يكون مزدوج الجنسية والعبادى يحمل الجنسية البريطانية.
لقد وعى العبادى منذ تسلم منصبه بتعقيدات الوضع العراقى والارتباط العضوى بين داخله وخارجه، ومارس عمله فى ظل استفحال خطر داعش بما كان يؤدى إليه من تكثيف الاختراق الخارجى لبلاده إقليميا ودوليا. ووسط هذا الواقع المتشابك بين الداخل والخارج حاول العبادى البعد ما أمكن عن سياسة المحاور وسعى لتحقيق نوع من التوازن فى العلاقات الخارجية لبلاده، انفتح لأول مرة على السعودية وحقق نقلة نوعية فى العلاقة معها لكن مع تأكيده أن العراق لن يكون ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية، واحتفظ بالعلاقة الجيدة مع الولايات المتحدة لكن من دون توريط العراق فى عمل ضد دول جواره بما فى ذلك إيران.
وتسمح محاولة تحقيق التوازن بين القوى الخارجية المؤثرة فى المشهد العراقى بمساحة أكبر من حرية الحركة وتزيد فى قدرة العراق على المناورة ريثما تنضج الظروف التى تمكنه من تحييد التأثيرات الخارجية إلى الحد الأدنى لكن مع اشتداد حدة الصراع بين الولايات المتحدة وإيران زاد الضغط على العراق وعلى كل الدول التى تتصادم فيها مصالح الدولتين، حتى إذا أراد العبادى أن يبدى رأيا فى مسألة العقوبات سقط فى فخ الاستقطاب ورجّح المنطق الأمريكى .
إن العراق يحاول حثيثا أن يتغير للأفضل وفيه نخبة تدفع بالفعل فى هذا الاتجاه، فإضافة لثلاثى الصدر/ العبادي/ الحكيم هناك بالطبع إياد علاوي، لكن هناك عناصر أخرى فى النخبة تستدعى الخارج لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة على حساب المصلحة الوطنية العراقية. ليس معروفا لمن ستذهب رئاسة الوزارة فى العراق، وأزعم أن فرص العبادى فى ولاية ثانية وإن لم تتبخر إلا أنها تناقصت، وفى بورصة الترشيحات تبرز أسماء بعيدة عن تلك المرتبطة بالاستقطاب الحاد بين المرشحين المعروفين، وَإنَّا لمنتظرون.
عن جريدة "الأهرام"
0 تعليق على موضوع : ورطة العبادى - بقلم: د. نيفين مسعد
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات