لقد استطاع رجل الأعمال الأمريكى دونلد ترامب إيقاظ مشاعر العنصرية والأصولية عند الكثيرين من الشعب الامريكى، والذى لعب على سلم الطبقات الاجتماعية وحَمل الأقليات العرقية المكسيكية واللاتينية والصينية والسوداء مشاكل الولايات المتحدة الاقتصادية والأمنية، وقد وظف وجود رجل أسود (باراك أوباما) في سدة الحكم بتمرير أفكاره العنصرية والذى اعتبر وجود منافسته هيلارى كلينتون امتداد لسياسة هذا الرجل الأسود، وأطلق وعودات كثيرة من أهمها منع الهجرة عبر المكسيك وبناء سور على الحدود لمنع تسرب العمالة المكسيكية الرخيصة والتى حملها مسؤولية زيادة نسبة البطالة في ولايات الغرب والجنوب الأمريكى، علماً بأن هذه العمالة الرخيصة قد أدَرت مليارات الدولارات على الشريحة المخملية من الطبقة البيضاء والتى يُعد ترامب أحد رموزها، كذلك تعهده بفرض ضرائب باهظة على الشركات التى نقلت مصانعها خارج الولايات المتحدة ،وألصق تهمة إفقار العمالة الأمريكية البيضاء بإدارة الديمقراطيين عن طريق عدم الاعتراض على سياسة بعض الشركات العملاقة بنقل مصانعها خارج الولايات المتحدة بحثاً عن مزيد من الربح بسبب رخص الأيدى العاملة في دول أخرى كالصين والمكسيك والهند، مع الاشارة إلى أن تلك التهم هى ببساطة تمثل التزام الولايات المتحدة باتفاقية التجارة العالمية وآليات السوق الحر وأى تدخل فيها هو إخلال بأليات الاقتصاد الرأس مالى ، وشركات السيد ترامب نفسه حذت حذو تلك الشركات العملاقة وأدَرت عليه تلك السياسة المزيد من المليارات .كذلك استهدافه للأقلية المسلمة كان استمراراً واضحاً لسياسة الإسلاموفوبيا التى تجتاح العالم فالرجل اختار أن يقف على أقصى يمين تلك السياسة بوعود بطرد وحظر هجرة المسلمين، ودعمه اللامتناهى لإسرائيل ووقوفه بجانبها وتصريحه بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس .
لقد نجح ترامب ببساطة في إعادة بعث أو ربما إيقاذ الجينات العنصرية في الجيل الجديد من أبناء الطبقة البيضاء، وجعلها تربط في اللاوعى بين وجود الديمقراطيين المنافسين في سدة الحكم والذى يقف على رأس حزبهم رجل أسود كان وصوله للحكم نصر ورد اعتبار للأقلية السوداء التى تعرضت للاضطهاد فى القرون السابقة؛ وبين مشاكل ومخاوف شريحة لا بأس بها من تلك الطبقة وصور نفسه بالمنقذ والنموذج الأبيض البديل لهيلارى كلينتون خليفة ذاك الرجل الأسود الذى حكم البلاد لثمانية سنيين ليصب ذلك كله أصوات في صالحه في صندوق الانتخاب في الولايات المتأرجحة بين الديمقراطيين والجمهوريين كفلوريدا مثلاً .
لقد نجح ترامب في الوصول لسدة الرئاسة، لكن ترامب الآتى لحكم الولايات المتحدة من خارج السياق السياسى أو الوظيفى لمنظومة الحكم الأمريكية سيكون لزاماً عليه استهلاك فترة رئاسته كاملة لإصلاح ما أفسدته حملته الانتخابية داخل الولايات المتحدة، وكذلك لن يكون بمقدوره تنفيذ الكثير مما وعد به الأغلبية البيضاء لأن ذلك سيعنى ببساطة دخول الولايات المتحدة في أتون صراعات عرقية داخلية وهو بمثابة صب الزيت على النار في مجتمع بدت ظاهرة فيه معالم تذمر الأقليات من العنصرية الواضحة تجاهها. حيث أن أدبيات الحلم الأمريكى تتناقض ببشاعة مع ما تعهد به السيد ترامب خلال حملته الانتخابية من تقليص في الهجرة لأعراق واثنيات معينة وترحيل للمهاجرين، او حتى فرض ضرائب باهظة على الشركات العملاقة المغادرة للولايات المتحدة؛ لأنه سيصطدم بلوبيات اقتصادية ستجعل من أى تحرك في هذا الصدد أمراً صورياً مفرغاً من أى محتوى أو مضمون .
ترامب الذى دخل البيت الأبيض من بابه الضيق سيكون أسيراً فيه على صعيد سياساته الداخلية نظراً لحجم العداء الذى تورط فيه الرجل تجاه الأقليات وتجاه المرأة على وجه الخصوص بوصفه رجلا متحرشاً من طراز رفيع . ورغم إدراكنا أن الولايات المتحدة تحكمها مؤسسات حكم عريقة واستراتيجيات بعيدة المدى لن تُمكن ترامب من الغوص في هذا الوحل الداخلى أو افتعال مواقف حادة في السياسة الدولية تؤدى إلى إذكاء صراعات دولية وحروب جديدة في العالم لتخفيف الضغط الداخلى على إدارته وهنا تكمن الخطورة لأن الساحة العالمية مليئة ببراميل البارود التى تنتشر على مدار خارطة العالم في صراعات مفتوحة تنتظر الحسم .
إن وصول ترامب للبيت الأبيض رافعاً أعلام الأصولية البيضاء العنصرية هو انتصار حقيقى لليمين المتطرف الموغل في العنصرية وهو انتكاسة ثقافية للمجتمع الأمريكى؛ حدثت بفعل أليات الرأس مالية المتوحشة والتى أوصلت رجل كترامب للبيت الأبيض وهو انتكاسة للحلم الأمريكى الذى يراد له أن يكون لفئة بعينها تحمل مقومات جينية وثقافية خاصة، وهو خطوة أخرى على طريق تطرف الولايات المتحدة والعالم، فكلا الفكرين الداعشى والأصولى الأبيض ينبعان من نفس المصدر ويصبان في نفس المجرى ويجرفان في طريقهما كل معانى التجربة الانسانية السوية والمنطقية في قبول الآخر والتعايش مع الاختلاف .
أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية




0 تعليق على موضوع : أصولية ترامب .. الأمريكى الأبيض بقلم:د. عبير عبد الرحمن ثابت
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات