الاثنين 15 يناير 2018 - 12:54
تدل الاحتجاجات الجارية بتونس بلد البوعزيزي، ومهد ثورات الربيع العربي، أن هذا البلد لازال لم يخرج بعد من عنق الزجاجة، رغم مرور سبع سنوات على الإطاحة بالديكتاتور، وأنه من المحتمل جدا أن يكون بصدد التعرض لانتكاسة قوية تعدم تجربته اليافعة التي دأبت وسائل الإعلام ودوائر القرار الدولية على توصيفها بالاستثناء بتأثير مما كانت تعتبره إلى حدود الأمس القريب نجاحا في فرض مستوى مقبولا من الاستقرار السياسي والمجتمعي، وإفلاتا من جزر الثورات المضادة، جنب بلد الزيتونة إلى الآن التردي في بئر الفشل الذريع كقرينتيها وتابعتيها في الثورة مصر وليبيا.
فمنذ أن تم إقرار مالية 2018 والأرض تهتز بقوة تحت أقدام الحكومة التونسية- التي تصنعها التوافقات أكثر مما تفعل الانتخابات- بعد أن خرج الآلاف من الشباب الغاضب في المدن احتجاجا على تفشي البطالة، وغلاء الأسعار التي همت البنزين والأدوية وسلعا أساسية، وعلى الإجهاز المتواصل دون هوادة على الطبقة المتوسطة، والاقتطاع من الرواتب الهزيلة للموظفين، والهزيمة أمام الفساد، وكذا على اختلال ميزان التنمية بين الجهات في السياسة الاقتصادية للدولة التي يقول المتذمرون إنها تحابي المدن الساحلية، وتجافي المدن الداخلية الغارقة في مستنقع الفقر والتهميش وانسداد الأفق... سياسة اقتصادية مترنحة لا زالت تتلمس الطريق، كما ينتقد معارضوها، وما انفكت مستمرة في تواكلها و"تبرجها" للغرب لجلب السياح، وتابعة خانعة لتعاليم المؤسسات المالية الدولية لأجل شهادة حسن سلوك للحاكمين هي دوما على حساب تعليم وصحة وقفة التونسيين، وبالخصوص على حساب سيادة القرار الاقتصادي التونسي.
وهكذا يتكشف لنا أنه بينما قد أبدع الشعب التونسي في تورثه، وقام بالمطلوب منه بالتمام والكمال، أخلفت نخبته موعدها مع التاريخ، ومع شبعها، بعد أن لم تستطع نحت نموذج تنموي يعقبها (الثورة) يكون على قدر ملحمة التونسيين العظيمة.
فمن منا لا يذكره المشهد التونسي الحالي، رغم الاختلاف بدرجة الحرارة، بتلك الجماهير التونسية الهائجة المتعطشة إلى الكرامة والحرية التي مهدت للحراك العربي برمته، أو ينسى ذاك المحامي التونسي الذي صرخ في جوف الليل بنعلي هرب بنعلي هرب، وصاحب ذاك الرأس الأشيب وعبارته التي صارت مثلا، قد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية.
ترى هل تبدد كل ذاك العرق والجهد وعادا سرابا؟ وهل تنهار الآن كل تلك الآمال السامقة وتذهب كل تلك التضحيات هباء؟ هل صارت كل تلك الأحلام أضغاثا أم هو تحطم المثال مرة أخرى وهزيمة الثورة في عقر دارها؟ أم ترى أن هذه الاحتجاجات على العكس من كل هذه "الهواجس" ليست سوى المخاض الصعب الذي لا مناص منه لولادة تونس جديدة لازالت في طور التشكل والتخلق؟ أم هي العراقيل الكأداء التي لا بد أن تصادفها في طريقها كل ثورة وليدة تدور عليها الدوائر الآن ويتربص بها "الأعداء"؟ أم هما فقط الهرج والمرج اللذان يأتيان تونس من محيطها العربي الفائر وتصيبها عدواهما بكل هذا الزكام وكل هذا الألم ثم تشفى وتتعافى؟
كثيرة هي الأسئلة المقلقة ومختلفة أيضا هي الأجوبة غير الشافية في الحالة التونسية. فهي حالة غير حدية لا ينفصل فيها النجاح عن الفشل، ولا يغرب فيها الأمل والتفاؤل عن شفق اليأس والتشاؤم. ولكن الجميع مع ذلك ينبري ليؤكد مسلمة واحدة، هي أن الشعب التونسي أصبح في واد، ونخبته بكل أطيافها في واد آخر. شعب أقضه وأضناه الانتظار، وسياسيون رهنوه لمؤسسات الاقتراض الدولية؛ ولذلك فهما يتجهان إلى أن يصبحا على طرفي نقيض إلا أن يتدارك الله تونس.
ورغم كل ذلك لا يشي ملمح تونس الحالي بأننا بصدد ثورة مضادة تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، فالناس يبدون كأنهم يطلبون ثورة أخرى فوق الثورة "العقيم" التي عجزت عن قطف الثمار، وصياغة الغد الباسم المشرق. أي إن الأمر في تونس يتعلق في العمق بالحاجة الملحة إلى متوالية ثورات، تكون الثانية منها الآن ضد فقر المخيلة وضد القعود عن الإبداع الخلاق.
لقد غنم الإسلاميون من الثورة التونسية مآرب كثيرة، قسطا من الحكم، وموقعا تحت الشمس، وودا لايزال مؤجلا من الغرب. وغنم أذناب النظام السابق شبه تبييض لصفحة خطاياهم القديمة بحق تونس، ونجح الليبراليون والببروقراطيون في أن يستثمروا هاجس الإسلاموفوبيا لأجل أن يتحولوا إلى دركي البلد الدائم في مواجهة فزاعة الخطر الإسلامي. وهو الدور "الفزاعة" الذي استمرأه الإسلاميون التونسيون مادام يدر عليهم من المنافع أكثر مما قد يدره عليهم الصدام أو الحكم المباشر أو الجهاد ضد الفساد والفقر، بل هم لم يحركوا ساكنا حتى لما استقصدت الهوية جاعلين منتهى هوية البلد فيهم وفي أن يتشاطروا سدة الحكم.
وحده الشعب التونسي خرج مخذولا مكسورا خاوي الوفاض منقطع الرجاء يجر أذيال الخيبة بعد انفضاض الثورة، واستبداله حكاما بآخرين لم يكونوا حتى مثل السابقين؛ فبنعلي الطاغية كان يحقق نموا اقتصاديا بـ 5 في المائة، وكل هؤلاء الذين تعاقبوا على الحكومة خلال السنوات السبع العجاف لقيام الثورة نزلوا بها الآن إلى أقل من 2 في المائة وربما أقل، ويا له من حصاد هزيل غير مشرف!!!
فمن منصف المرزوقي الذي لا يطاع، إلى الباجي السبسي ويوسف الشاهد اللذين يستنهكهما الشقاق مع الإسلام السياسي والتفكير في خطة الفوز في الانتخابات أكثر مما تستغرقهما تونس وهمومها، اللذين لا يبدعان إلا في قضايا حقوق المرأة والميراث والزواج من الأجنبي التي من "مكر الصدف" تلاقي هوى لدى دائني تونس، وتعوزهما الهمة نفسها لوضع حلول تفك الارتباط مع صندوق النقد الدولي من خلال محاربة الفساد والتهرب الضريبي وتشجيع الاقتصاد المعرفي...الخ ، إلى هذا المستقبل الهلامي الغامض الذي يفتقد إلى البوصلة الاقتصادية وتحفه المخاطر والأهوال من كل صوب وحدب.
ولعل الشعب التونسي تسول له نفسه أمام هذا الوضع وتوسوس له مرارا أن يعقد مقارنة "شيطانية" بين وضعه المادي بعد الثورة، وبين ما كان سيجنيه لو ظل الدكتاتور جاثما على صدره بكل عيوبه ووطأة الاستبداد فيه، فيرتعب، ويدوخ، وتميل الكفة لديه لصالح الدكتاتور. وربما قد يتحسر في لحظات الضعف على أنه تخلى يوما عن القناعة وثار. فالثورة لم تحصل في ناظريه إلى اليوم على شرعية الإنجاز بعد أن ضيعتها صراعات النخبة السياسية وضعفها، والديمقراطية بالنسبة له لا تعني أيضا أي شيء لبطنه الجائعة وجيبه الفارغ، خصوصا وأن هذا الانتقال لا يمده حتى بفسحة الأمل ولا يحمل له في أحشائه أدنى وعد صريح بالنجاة لا غدا ولا حتى بعد غد. وهذا ما يعكسه ببلاغة المكابدين شعار الاحتجاجات "واش كنتسناو".
بسبب هذه الخلاصات المؤلمة، خرج الشعب التونسي مرة أخرى لمعركة كسر العظام هاته مع الحاكمين بعد أن فهم أن ثورة واحدة لا تكفي، وبعد أن لم يلمس نهجا جديدا في الاقتصاد أو في التنمية مختلفا عما سبق. تتساوى عنده في ذلك كل الحكومات وكل الرؤساء، وصار سيان لديه اليساريون والإسلاميون والليبراليون والعلمانيون وحتى النقابيون، خرج وعينه على تغيير جذري للنموذج التونسي يجعله يفخر بالثورة ويباهي بها، ويجعله بالخصوص لا يندم عليها. خرج بعد أن تبين له أن تونس الغنية بجمالها وخضرتها وبفوسفاطها وبمواردها البشرية الهائلة أصبحت بيد الطبقة السياسية مثل السيف بيد الجبان لا يعرف كيف يستعمله أو يفتك به.
يصر يوسف الشاهد على أن هذا آخر عام صعب على التونسيين، وتصر حكومته بسفسطائية على اعتبار الاحتجاجات مظهرا من مظاهر الديمقراطية، أو تتهم بعض قوى المعارضة بالنفاق وبتأليب الرأي العام واستغلال هشاشة الأوضاع. لكن الشعب التونسي حتى وإن تفهم التدابير المؤلمة يحنق على الحكومات المتعاقبة أن لا استراتيجية لها، وأن لا بصيص أمل تبديه له في نهاية النفق. إنه يشعر بالخذلان وبالقرف من الانتظار، ويتطلع إلى نبوغ واستبسال في انتشاله من أزمته الاقتصادية يثمنان رأس ماله البشري ويبنيان له اقتصادا ببصمة تونسية كما فعلت دول أخرى مثل سنغافورة وقبلها تركيا.
آن الأوان لنفهم جميعا، تونسيين وعربا، أن الثورة لا تمطر ذهبا ولا فضة، ولا تخبز خبزا إن لم تتلها خطة اقتصادية ذات جدوى، وأنها لا تغني عن العمل الجاد، وعن حشد الطاقات كلها، بل تفرض مباشرة بعدها الانصراف عن الشقاق والجدل السياسي العقيم حول المسائل النظرية، والتفرغ إلى الجهاد الأكبر... جهاد التنمية ووضع البرامج الذكية القمينة بالإقلاع الاقتصادي والاجتماعي.
إن تعثر الاقتصاد التونسي يجر هذا الشعب الذي صبر زمن الاستبداد وزمن الثورة بعد ذلك إلى قرار سحيق، ويثبت أن الدول لا تنطلق فقط بالنوايا والأماني ولا تتقدم حصرا بالدساتير الديمقراطية المسكوكة المخلصة لتعاليم مونتيسكيو، فذلك يضعها فقط على بداية السكة. وإنما تنهض بالأفكار وبالبصيرة السياسية النفاذة التي تحدس بشكل صحيح أين تكمن عناصر القوة لدى الشعب، وتوظفها في الاتجاه الأمثل لبناء اقتصاد قوي يصون الثورة ويكون صمام أمان لها.
إن تونس وإن كانت قد فشلت على الأمد القصير لقادرة على أن تقلع على المديين المتوسط والبعيد مادامت محافظة على النهج السلمي للثورة ومادام الكل مقتنعا بأنه في قارب واحد. إن الشعب الذي يريد الحياة "يستجيب" له القدر. وحتما سيفوح أريج ثورة الياسمين.
*بروفيسور بكلية الطب بالرباط
0 تعليق على موضوع : تونس.. ثورة واحدة لا تكفي تونس.. ثورة واحدة لا تكفي بقلم / د. خالد فتحي*
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات