لقد أسأتم فهم مهمتكم حين حاولتم أن تمنحوا أنفسكم حقوقا ليست لكم ولا يعقل أن تنالوها يوما من الأيام، إن مجلسكم هذا إشعاع من النور الذى أنا مبعثه وسلطتكم تلك امتداد من السلطة التى أنا مصدرها، فمن التجنى محاولة تأليب الفرع على الأصل، والتفريق بين الشيء وظله، ولقد سلكتم معى منذ البداية مسلكا لا يرضاه ملك يستمد سلطانه من الله، لا منكم، فجئت أنذركم بالحسني، قبل أن أخذكم بالعنف.
ليست هذه الفقرة من مسرحيات (ويليام شكسبير) الكاتب الإنجليزى الشهير الذى تناول بعبقريته صراعات القصور الملكية، وإنما جزء من خطاب تاريخى واقعى أمام البرلمان فى مأساة الملك (تشارلز الأول)، إبان حكمه لإنجلترا فى النصف الأول من القرن السابع عشر، فقد رأيت أن أستبدل قراءة التاريخ الواقعى بالرواية اللطيفة لشكسبير، حلم ليلة منتصف الصيف، فالواقع العربى لم يعد به إلا الكوابيس، وامتد الصيف الحارق سنوات وسنوات من الهوجات العربية التى لم تنته بعد!.
من المعروف أن وقائع الزمان تضيف إلى الإنسان أعمارا إلى عمره ودراسة السياقات التاريخية بموضوعية، تفيدنا فى فهم حركة الزمن وتخلق وعيا إضافيا بالحاضر، وإعدادا صلبا للمستقبل، وحياة الملك تشارلز الأول (1600 : 1649)، من المآسى التاريخية الكبري، التى اصطدم فيها الجمود بالطموح، فالملك والبرلمان كانا على طرفى نقيض، الاستبداد المطلق من ناحية، والتهور الثورى من ناحية، وكانت النتيجة حروبا أهلية متتالية، ما أن تنطفيء واحدة، حتى تشتعل أخري، وليدفع الشعب الضريبة الباهظة من دم أبنائه.
قاد المعارضة ضد الملك النائب بالبرلمان (أوليفر كرومويل)، مطالبا مع عدد من النواب بتمديد سلطة الملك، خاصة بعد هزيمته أمام (أسكتلاندا) فى حربه معها، لفرض عقيدته الكاثوليكية عليها، وتدخله فى شئونها الدينية، ومع فرضه الضرائب، تذمر البرلمان، ونبتت فكرة الحكم الجمهورى فى عقل (كرومويل)، وبدأت الحرب الأهلية، لتطبيق فكرة فى غير زمانها من ناحية وعدم المرونة السياسية من ناحية، وخاضت إنجلترا صراعا رهيبا بين الماضى والمستقبل!
تزعم (كرومويل) فرقة مسلحة من الجيش، وحاصر بها البرلمان (مجلس العموم)، وكون الملك فرقة باسم «فرسان الملك» على غرار فدائيى صدام!، وانعقد البرلمان بعدد (60) نائبا فقط، بعد أن منع (كرومويل) من يعتقد ولاءه للملك من الحضور، وبدون مجلس اللوردات الذى رفض محاكمة الملك، أصدر مجلس النواب قرارا بمحاكمة الملك بتهمة الخيانة العظمي، وكان (كرومويل) يقمع أى صوت يتردد فى إدانة الملك، بعد أن انقسمت الأصوات بين يحفظ الله الملك، وبين القصاص.. القصاص!، ولم ينفك الملك أن يصيح من أنتم؟!.
لم يسترح (كرومويل) إلا عندما نفذ حكم الإعدام ، بعد أن طمأن النواب: لا تخشوا من الشعب شيئا، فلن يأتى أحد يحركه، ولن يتنفس فم بكلمة، وستقطع عنق الملك والتاج فوق رأسه، والناس سكوت. وقيل إنه بعد قطع عنق الملك (1649) أخذ يغرس يديه بجنون فى دمائه قائلا إنها دماء حمراء وليست زرقاء!!.
فهل نجح (كرومويل) بعد كل هذا الجنون فى إقرار الحكم الجمهورى بالبلاد؟!، بالطبع لا، فالملكية موجودة بانجلترا حتى الآن، ولكن بعد أن مرت بالمراحل التاريخية اللازمة لإقرار الحكم الديمقراطي، مع وجود ملكية مقيدة، فقد سادت فترة حكم (كرومويل) اضطرابات قمعها بالقوة فيما يعرف بالكومنولث حتى مات، فاستدعى مجلس العموم (تشارلز الثاني) ابن تشارلز الأول ليحكم البلاد عام (1660).
تحملت الشعوب تضحيات كبيرة فى تجارب تاريخية مؤلمة لكن لا يتم الاستفادة منها فى شعوب أخرى دون تضحيات مماثلة، وما كان أغنانا عن تكبد ما نعانيه من حروب أهلية وعدم استقرار، لو أن هناك حركة فكرية جادة ومستمرة لتفعيل تجارب الآخرين، والوعى بالثمار المسمومة لزرع الأفكار المنحرفة نحو الماضي، وضد حركة التاريخ إلى الأمام، فعندما دعمت انجلترا جمعية (الإخوان) كانت تنظر لخلق أرضية لها على أرض الواقع، تناكف بها الحركات الوطنية المطالبة بالاستقلال، ولم تحتضنها لمناصرة الإنجليز علنا فذلك كفيل بالقضاء عليها فى مهدها، ولكن للمزايدة وطلب المستحيل وغير العملى وتوريط القوى الوطنية فيما لا قبل لها به، باللعب على الغرائز والشعارات الفضفاضة، كما حدث فى حرب ( 48)، وخرج منها الملك (فاروق) مهزوما، ليخرج من مصر نهائيا!. كل ما فعلته انجلترا الاستعمارية هى زرع رأس (تشارلز الأول) الطائرة، فى رأس (حسن البنا)، الذى طار فيما بعد، لإقامة مملكة الله على الأرض (الخلافة) فكانت المقابل الموضوعى لدينا فى الخلط بين الدين والسياسة، والحكم باسم الله، فما الفرق بين الحكم الإلهى وحاكمية (سيد قطب) القائمة على الأساس الفكرى لحسن البنا!!.
رفضت مصر الحضارة العودة إلى العصور الوسطى وزمن تشارلز الأول، وكشفت المتلاعبين بالتخلف لتحقيق أهداف استعمارية، ورغم دماء الشهداء وجراحنا الساخنة، إلا إنها الثمن الغالى للمضى فى الطريق الحضاري، والشفاء من مرض المزايدات الدينية!.
لمزيد من مقالات وفاء محمود;
0 تعليق على موضوع : رأس تشارلز الأول فى رأس حسن البنا! - بقلم : وفاء محمود
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات