مثلما أن علي خامنئي ما كان ليريد رئيسا لإيران من ذلك الصنف الذي يثير الالتباس، فجلب إبراهيم رئيسي من قاع الجريمة إلى رأس السلطة، فإنه لا يريد حكومة في العراق ولا في لبنان تثير الالتباس.
كل توقعات مقتدى الصدر بشأن الانتخابات المزمعة في أكتوبر كانت تقول إنه يريد أن يفوز بالأغلبية وأن يشكل الحكومة، ما لم يكن هو نفسه رئيسا للوزراء. ولكن جاءته اللطمة من طهران لتقول له، إنك لن تحصل على أكثر من 30 مقعدا، ولن تُعيّن رئيسا ملتبسا للوزراء مثل مصطفى الكاظمي. فخرج الرجل، ليلعن أبو المشاركة في الانتخابات، ويعلن من دون سابق إنذار انسحابه منها، ويندد بالذين سوف يفوزون بها من أهل الفساد الذين وصفهم بـ”التبعية”، حتى كاد يشير إليهم بالاسم.
إيران تدبرت أمرها في ظل العقوبات، وإغراءات المال الغربية ليست مما يقنع حزب الحرس الثوري في لبنان بالتخلي عن سلطته ولا الأحزاب الولائية في العراق بقبول حكومة تلعب على الحبلين
الانطباعات الإيجابية التي سبقت اعتذار سعد الحريري، كانت تقول إن الحكومة قاب قوسين أو أدنى من التشكيل.
السفيرتان الأميركية والفرنسية في بيروت حملتا رسالة مشتركة من وزيري خارجية بلديهما إلى الرئيس ميشيل عون تدعوه ضمنا إلى تيسير التشكيل. وخرج هو نفسه ليقدم إيحاءات تُظهر اللّين. والتشكيلة المقترحة نفسها كانت، من الأساس، ثمرة توافق مسبق مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري، في مبادرة حملت اسمه. ولكن لم تمض 24 ساعة حتى جاءت اللطمة من “وكيل الإمام” في لبنان حسن نصرالله لتعكس اتجاه الريح، فعاد عون ليضع العصي في العجلة، مما ألزم الحريري على الاعتذار.
البدائل في العراق معروفة. إنها لواحد من أولئك الذين يمثلون “خط الإمام” ويمارسون السلطة في العراق كسبيل لخدمة مصالح إيران. والبديل في لبنان سيكون على ذات الغرار. ولن يصعب العثور على “تكنوقراط” مزيف يعمل في خدمة الحرس الثوري، ولا يهمه أن يتخاطب مع مؤسسات التمويل الغربية. سوف تُفتح له أبواب أخرى.
الولايات المتحدة سوف تُتمّ انسحابها من العراق بالقوة لو اقتضى الأمر، ولن تستطيع حتى البقاء في سوريا. صحيح أن وجود القوات الأميركية في سوريا يتشابك مع توافقات أخرى مع روسيا، إلا أن هذه التوافقات لا تشمل ميليشيات الولي الفقيه في العراق، التي أعلنت صراحة أنها ماضية في حربها ضد الوجود الأميركي ليس في العراق وحده، وإنما في المنطقة بأسرها.
الاعتقاد السائد في لبنان هو أن هذا البلد بحاجة إلى حزمة إنقاذ تتراوح في قيمتها بين 20 إلى 25 مليار دولار. وهذه الحزمة هي ما تملي شروط الإصلاح المطلوبة، وعلى رأسها مكافحة الفساد. ولكن من قال إن الإصلاح مطلوب أصلا؟ ومن قال إن مكافحة الفساد شرط ممكن التحقيق، بينما الفساد هو الماكينة التي تُسيّر عجلات الدولة الموازية؟
إذا كانت “حزمة الإنقاذ” هي التي تملي على حزب الله وحلفائه إقامة حكومة تكنوقراط مستقلين، تنزع عنهم السلطة وأدوات الفساد، فعساها ما كانت، ولا قامت قائمةٌ للبلاد.
لاحظ، أن الدولة الموازية توفر لشعبها نوعا من الاستقرار. وهذا “الشعب” لا ينتفض كما تنتفض “الشعوب” الأخرى في لبنان.
لاحظ أيضا، أن النفوذ الفرنسي والأميركي في لبنان، ليس نفوذا لا سبيل إلى مناظرته بنفوذ مضاد. ومثلما جاء وزير خارجية الصين ليعرض مشاريع استراتيجية على الرئيس بشار الأسد المحاصر بقانون قيصر، فإن الصين التي سترث النفوذ الأميركي في أفغانستان، يمكنها أن ترث النفوذ الأميركي في العراق ولبنان.
هذا جزء من سباق المنافسة القائمة أصلا. و20 مليار استثمارات صينية في لبنان، تركب على حصان الحرس الثوري، على نحو ما ركبته في إيران نفسها، ليست مبلغا هائلا على شي جين بينغ.
روسيا لها تطلعات أشد هولا. فحقول الغاز في المنطقة الاقتصادية الخاصة بلبنان في المتوسط، لا بد وأن تكون مما يسيل له اللعاب. ولن ينتظر فلاديمير بوتين طويلا قبل أن يُرسل موفدين إلى لبنان لتقديم العروض و… المساعدات.
أنظر إلى الأمر من الزاوية التي ينظر إليها حسن نصرالله، وسترى لماذا لا تشكل حزمة الإنقاذ الغربية مبررا كافيا للتخلي عن السلطة.
أنظر إليها من زاوية حرب الضغوط الاقتصادية على إيران، التي تتحول إلى حرب عصابات ضد الوجود الأميركي في المنطقة، وسترى أن إيران تريد أن تفرض هيمنتها المطلقة على العراق وسوريا ولبنان حتى ولو بقيت العقوبات الأميركية قائمة ضدها. أولا، لأنها تملك الاستعانة ببدائل لتمويل ما تحتاج تمويله. وثانيا، لأنها تملك السلاح والعصابات.
المفاوضون الإيرانيون في فيينا أبلغوا الولايات المتحدة أن النفوذ الإيراني في المنطقة ليس موضوعا للنقاش. ولا برنامجها للصواريخ. المقايضة الوحيدة الممكنة هي السلاح النووي مقابل رفع العقوبات. ولو حصل ذلك، فإنه سيوفر التمويل المطلوب لكل العصابات في المنطقة، كما يوفر لإيران تمويل مشاريعها الخاصة.
لقد تدبرت إيران أمرها في ظل العقوبات لعدة سنوات. ويمكن أن تتدبر أمرها لسنوات أخرى. وإغراءات المال الغربية ليست مما يقنع حزب الحرس الثوري في لبنان بالتخلي عن سلطته، ولا أحزاب العصابات الولائية في العراق بقبول حكومة ملتبسة تلعب على الحبلين. ولن تتحقق تسوية في اليمن تمنح الشرعية هناك ما لم تستطع أخذه بالقوة.
ماذا يعني هذا كله؟
إنه يعني أن إيران لن تتخلى عن شبر مما استولت عليه. وليس مما يهم رعاعها كيف يعيش الناس. ها هم يعيشون بالبؤس نفسه في كل مكان وطئته أقدامهم. وصور البؤس في لبنان، ليست أسوأ من صور البؤس في اليمن. والأزمات المعيشية الكارثية يمكن أن تتواصل لعقود. هل تريد أمثلة؟ اذهب إلى الصومال.
الولايات المتحدة التي اختارت الانسحاب من أفغانستان لكي تتفرغ للمنافسة مع الصين، لن تختار الانسحاب من العراق وسوريا. سوف تُجبر عليه. ولن يكون لها موطئ قدم في لبنان. وبدلا من محاصرة نفوذ الصين، فإن هذا النفوذ سوف يتسع.
تملك الصين من الموارد ما يكفي. وهي تقيم نفوذها ومشاريعها الاستراتيجية على أسس تجارية خالصة. وهذه مما لا يأبه بنوع القطط التي تحكم هنا أو هناك، طالما بقيت تصيد لها فئران المنافع. ولهذا السبب فإنها بديل فعال لأنظمة الطغيان، بمقدار ما هي بديل فعال للأنظمة الديمقراطية نفسها.
المعنى من بعد هذا المعنى، هو أن الذين اختاروا التراجع خطوة مع طهران، سوف يضطرون إلى التراجع خطوات.
ألم يقل العاقلون إن القضاء على رأس الداء هو الدواء؟
مَنْ لم يفهم، سوف يجد نفسه مجبرا على الفهم، في آخر المطاف.
0 تعليق على موضوع : بانتظار حكومة إبراهيم رئيسي في العراق ولبنان
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات