منذ فوز الرئيس دونالد ترامب بالانتخابات وسيف عزله عن السلطة معلق فوق رأسه. ترامب خاض حملة انتخابية غريبة وقطعا غير اعتيادية، وتصرف بطريقة لا علاقة لها بالأعراف والتقاليد، وأدى سلوكه الصدامي وحتى التحريضي خلال مهرجاناته الانتخابية إلى إثارة جدل حاد في الأوساط السياسية طغى على النقاش في وسائل التواصل الاجتماعي. تعامله الفظ مع منافسيه الجمهوريين أولا، ولاحقا مع مرشحة الحزب الديموقراطي هيلاري كلينتون، تنافى مع تاريخ الحملات الانتخابية مثل توجيه الإهانات الشخصية للجمهوريين، أو اتهام كلينتون بالفساد، وحتى مناشدة روسيا علنا على التدخل في الحملة الانتخابية من خلال اختراق جهاز اتصالات كلينتون والاستيلاء على رسائلها الإلكترونية.
وإذا لم تكن هذه الممارسات كافية لإثارة الأسئلة المشككة بأهلية ترامب للرئاسة، فإن مواقفه العدائية من المهاجرين، وخاصة من أميركا الوسطى، ودعوته لحظر دخول المسلمين للولايات المتحدة، وسياساته الانعزالية وتشكيكه بجدوى الأحلاف والاتفاقات الدولية، تضافرت كلها حتى في ذلك الوقت المبكر للحديث أو للتنبؤ باحتمال محاكمة أو عزل ترامب إذا تغيرت حظوظ الديمقراطيين واستعادوا السيطرة على مجلس النواب على الأقل، إن لم يكن على مجلسي الكونغرس.

وخلال الأشهر القليلة التي سبقت نشر تقرير المحقق الخاص روبرت مولر الذي حقق بالتدخل الروسي في انتخابات 2016 الرئاسية، اقترب سيف المحاكمة أكثر من رأس ترامب، ولكنه أفلت منه لأن تحقيقات مولر لم تبين بشكل قانوني وقاطع أن حملة ترامب قد تآمرت مع روسيا، أو أن محاولات ترامب عرقلة تحقيقات مولر لم ترق إلى التعريف القانوني "لعرقلة العدالة". ولكن تقرير مولر أظهر بوضوح أن مسؤولين في حملة ترامب أجروا اتصالات بممثلين عن الحكومة الروسية، وأن موسكو بالفعل قامت بمساعدة حملة ترامب، وأن الرئيس حاول 10 مرات عرقلة تحقيقات مولر. تقرير مولر زاد من عديد النواب الديمقراطيين الذين طالبوا بمحاكمة ترامب، ولكن رئيسة المجلس نانسي بيلوسي بقيت تعارض محاكمة ترامب في غياب أدلة دامغة تؤكد انتهاكه للدستور، ولأن أكثرية الأميركيين غير متحمسة لمثل هذا الإجراء الجذري، ولأنه يمكن أن ينعكس سلبا على الديمقراطيين في انتخابات 2020. وكما راقب الأميركيون تحقيقات مولر باهتمام وقلق، راقبها أيضا حلفاء واشنطن التقليديين باهتمام وقلق مماثل، وأن راقبها خصوم الولايات المتحدة بمزيج من التلذذ والتشفي.
السيف المعلّق فوق رأس ترامب
ولكن الكشف عن وجود شكوى مفصلة من 9 صفحات وضعها مسؤول استخباراتي ورفعها إلى المشرف العام للاستخبارات حول اتصال هاتفي بين الرئيس ترامب ورئيس أوكرانيا الجديد فلودومير زيلينسكي، اتهم فيها المسؤول الاستخباراتي (الذي لم يكشف عن هويته أو هويتها، مع أن صحيفة نيويورك تايمز قالت إنه رجل موظف في وكالة الاستخبارات المركزية) الرئيس بأنه أساء استخدام صلاحياته بطريقة سافرة، الأمر الذي هز الأوساط السياسية في واشنطن، وأحيا من جديد مسألة محاكمة وعزل ترامب. وللمرة الأولى يشعر ترامب بخطر السيف المعلق فوق رأسه. ويعبر ترامب عن مخاوفه الجديدة عبر شن الهجمات القاسية ضد القيادات الديمقراطية وخاصة رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب آدم شيف، الذي اتهمه الرئيس بالخيانة. وبعد معارضة أولية من البيت الأبيض للكشف عن الشكوى أو الإضاءة على المكالمة الهاتفية، وافق ترامب بعد أن حضه مشرعون جمهوريون على الكشف عن نص المكالمة، وعن نص الشكوى. نص المكالمة جاء منسجما مع مضمون الشكوى، وخاصة أن الرئيس ترامب الذي علق تجميد صفقة أسلحة لأوكرانيا واستخدم ذلك للإيحاء للرئيس الأوكراني بأنه سيفعل ذلك ولكنه بالمقابل يريد منه "خدمة"، أي التحقق من صحة نظرية مؤامرة يؤمن بها ترامب ولكن لا أساس لها من الصحة، بعد أن ضحدتها الاستخبارات الأميركية والتي تقول إن أطرافا أوكرانية، وليس روسية، هي التي اخترقت البريد الإلكتروني للحزب الديمقراطي ولهيلاري كلينتون في 2016.
لكن الشق الثاني من "الخدمة" التي أرادها ترامب من نظيره الأوكراني هي الأهم والأخطر قانونيا على ترامب، وتتمثل بإحياء التحقيق الأوكراني بنشاطات نائب الرئيس جوزيف بايدن، الذي يعتقد الرئيس أنه سيكون منافسه في انتخابات 2020، وبنجله هنتر. وكان هنتر قد خدم في عضوية شركة أوكرانية حقق فيها بتهم الفساد، ولكن التحقيقات لم تجد أي أدلة ضد هنتر بايدن. وخلال الفترة التي عقبت الثورة الأوكرانية وحين كانت أوكرانيا بحاجة إلى مساعدات من الولايات المتحدة وأوروبا ومؤسسات أخرى مثل صندوق النقد الدولي، طالبت حكومات هذه الدول، ومن بينها حكومة الرئيس باراك أوباما الحكومة الأوكرانية إجراء إصلاحات إدارية وسياسية، وشملت هذه المطالب التخلص من المدعي العام آنذاك لأنه معروف بفساده. وقام نائب الرئيس جوزف بايدن بنقل هذا الموقف لأوكرانيا. وأظهرت كل التحقيقات القضائية، والتقارير الصحفية أنه لا بايدن الأب ولا بايدن الابن قد ارتكب أي جرم أو انتهاك لأي قانون أوكراني أو أميركي. الرأي السائد في أوساط الحقوقيين والمحللين، هو أن ترامب سعى إلى الضغط على رئيس دولة أجنبية لمساعدته في معركته الانتخابية من خلال الكشف عن "أشياء قذرة" حول جوزف بايدن ليستغلها في حملته الانتخابية المقبلة... وكل هذا انتهاك واضح للدستور.
للمرة الأولى يشعر ترامب بخطر السيف المعلق فوق رأسه. ويعبر عن مخاوفه الجديدة عبر شن الهجمات القاسية ضد القيادات الديمقراطية.
وفجأة تحولت "الفضيحة الأوكرانية" كما سماها البعض إلى صرخة المعركة الجديدة للديمقراطيين للتخلص من ترامب. ودعت نانسي بيلوسي الثلاثاء الماضي إلى بدء التحقيقات الأولية بشأن احتمال محاكمة ترامب الذي قالت بيلوسي إنه انتهك قسم اليمين وأساء استخدام صلاحياته. وهكذا، أدى قرار بيلوسي إلى انضمام ترامب إلى قائمة صغيرة من الرؤساء الأميركيين الذين حوكموا في مجلس النواب أو واجهوا هذا الخطر. أولهم كان آندرو جونسون فور انتهاء الحرب الأهلية في منتصف ستينات القرن التاسع عشر، وثانيهم كان بيل كلينتون في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي. ومع أن جونسون وكلينتون حوكما في مجلس النواب، إلا أن مجلس الشيوخ برأهما من التهم الموجهة اليهما. الرئيس الثالث الذي كان على عتبة المحاكمة في مجلس النواب هو ريتشارد نيكسون الذي انتهك الدستور بشكل سافر، للتغطية على فضيحة ووترغيت، ولكنه استقال في 1974 بعد أن أبلغه قادة الحزب الجمهوري في الكونغرس أنهم لن يدافعوا عنه. التهم الموجهة للرؤساء الثلاثة كانت بسبب انتهاكات داخلية ولا علاقة لها بالسياسة الخارجية. ولكن ترامب هو الرئيس الأول الذي يمكن أن يجد نفسه في خضّم محاكمة من قبل مجلس النواب لأنه حاول السعي للحصول على مساعدة دولة أجنبية ضد خصومه في الداخل ولتحقيق اهداف وطموحات شخصية، أي الفوز بالرئاسة.
كيف سيتعامل ترامب مع العالم خلال محاكمته؟
خلال مواجهات الرئيس نيكسون مع الكونغرس الذي كاد يحاكمه بسبب فضيحة ووترغيت، وخلال محاكمة الرئيس كلينتون، لم تتأثر السياسة الخارجية للولايات المتحدة بشكل جذري، لأن الرئيسان كانا يعتمدان على مؤسسات قوية وأجهزة بيروقراطية قادرة على متابعة سياسات ثابثة ومعروفة، وبالتعاون مع حلفاء موثوق بهم. ولكن الوضع يختلف جذريا مع الرئيس ترامب، الذي "يدير" الولايات المتحدة كما كان يدير شركته الخاصة، حيث يصر على اتخاذ القرارات الأساسية معتمدا على جهاز إداري محدود وغير قادر على مسائلته. وخلال أقل من ثلاث سنوات عين ترامب أربعة مستشارين لشؤون الأمن القومي، وثلاثة وزراء دفاع ووزيري خارجية. وأحيانا تمر أشهر كثيرة ومناصب بارزة، أمنية وسياسية تبقى شاغرة ويديرها مسؤول مؤقت، كما هو الحال في منصب مدير جهاز الاستخبارات الوطني.
يلتقي معظم المحللين على القول إن محاكمة ترامب، ستزيد من وتيرة "الانسحاب" الأميركي من العالم بما في ذلك من الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وهي ظاهرة سعى ترامب إلى التعجيل بها قبل أوكرانيا وتحدياتها. وسيرى العالم في المحاكمة انحسارا في نفوذ الولايات المتحدة العالمي في الوقت الذي تقوم فيه بالالتفاف نحو تحدياتها الداخلية. في المقابل، هناك أقلية ترى أن مشاكل ترامب الداخلية قد تدفعه للتركيز على القضايا والنزاعات الخارجية لتحويل الاهتمام عن متاعبه الداخلية، بما في ذلك استخدام القوة ضد أعداء حقيقيين أو وهميين، ويشير هؤلاء إلى أن إيران من بينهم. ولكن سجل ترامب يبين أنه يلجأ إلى التهديد باستخدام القوة، وحتى بالتدمير الشامل لأعدائه، قبل أن يتراجع في اللحظة الأخيرة. ولكن التركيز السياسي على الخارج لحجب تداعيات الداخل، يمكن – نظريا على الأقل – أن يدفع بترامب إلى التحرك ديبلوماسيا لحل خلافات واشنطن القديمة مع دول مثل كوريا الشمالية وإيران. هذا ما فعله الرئيس نيكسون حزيران –يونيو 1974 بعد وصول ضغوط الكونغرس عليه إلى مستويات غير معهودة، حين أكتشف أن الشرق الأوسط - بعد حرب تشرين 1973- يحتاج إلى جولة رئاسية، ما حمله على زيارة مصر والسعودية وسوريا والأردن وإسرائيل...قبل شهرين من استقالته.
قيام الرئيس ترامب بالكشف للمرة الأولى عن مضمون اتصالاته مع رئيس أوكرانيا، خلق سابقة خطيرة، ستقنع قادة العالم من أن اتصالاتهم مع الرئيس الأميركي لن تبقى سرية بالضرورة. ولكن بما أن الرئيس والكونغرس وأجهزة حكومية أخرى ستكون مشغولة بالمحاكمة، هل ستكون الولايات المتحدة في هذه الحالة قادرة على معالجة قضايا طارئة، مثل هجمات إرهابية ضخمة، أو انحسار كبير في الأسواق المالية؟ محاكمة الرئيس – أي رئيس – ستضعفه أمام العالم، وهذا سينعكس على أي مبادرات سياسية كان قد طرحها ترامب أو يأمل بطرحها مثل محاولة التوسط بين الفلسطينيين وإسرائيل، أو التوصل إلى اتفاق نووي مع كوريا الشمالية.
بعد قرار الحزب الديمقراطي التحضير لاحتمال إحالة الرئيس ترامب للمحاكمة في مجلس النواب، ازداد عدد الأميركيين الذي يؤيدون هذه الخطوة، ووافق 55 بالمئة على محاكمة ترامب، مقابل 45 بالمئة عارضوا الخطوة، وفقا لآخر استطلاع للرأي أجرته شبكة التلفزيون سي بي أس. وحتى شبكة فوكس المفضلة لدى ترامب لم تحمل إليه أخبارا جيدة. فقد أظهر آخر استطلاع لها أن 52 بالمئة من الأميركيين يقولون إنهم "مرهقون" بسبب ترامب ويتطلعون إلى رحيله، مقابل 37 بالمئة ينظرون بإيجابية إلى ولاية ترامب.
سيحاول الديمقراطيون إنجاز تحقيقاتهم الأولية خلال أسابيع وتوجيه تهم محددة ضد ترامب، بأمل إنهاء المحاكمة قبل بدء الانتخابات الحزبية الأولية في شباط- فبراير المقبل. ومن المتوقع أن تقوم الأكثرية الديمقراطية في مجلس النواب بالتصويت ضد ترامب، وإحالته إلى مجلس الشيوخ ليصوت على عزله عن منصبه. ولكن عزل الرئيس يتطلب موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ، ما يعني أن ترامب سيبقى في منصبه. ولكن بغض النظر عن احتمالات نجاح الديمقراطيين أو إخفاقهم بتحقيق أهدافهم، فإن محاكمة ترامب ومضاعفاتها الداخلية والخارجية ستخيم بظلالها الثقيلة على البلاد لثلاثة عشر شهرا، في عالم محفوف بالأخطار الجسيمة.
_________
0 تعليق على موضوع : مضاعفات محاكمة ترامب على السياسة الخارجية // بقلم : هشام ملحم
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات