تطورات خطيرة ومفاجئة فى إقليم «التيجراى» الأثيوبى المجاور للحدود السودانية، والذى شهد معارك دامية وانتهاكات مروِّعة لحقوق سكانه، بين مجازر وحشية وأعمال اغتصاب جماعى وتنكيل همجى ضد مواطنيه على أيدى «آبى أحمد» والقوات الاريترية المتحالفة معها.
التيجراى إقليم يتمتع بالحكم الذاتى، وتسكنه قومية معروفة بنفس الاسم.. ويقع شمال غربى اثيوبيا بحذاء الحدود السودانية، ويبلغ عدد سكانه «ستة ملايين نسمة»، وكانت حكومة الإقليم قد اختلفت مع حكومة أديس أبابا بسبب تأجيل رئيس الوزراء «آبى أحمد» للانتخابات التشريعية، وانتقاص الحقوق السياسية والاقتصادية لسكان الإقليم، وعدم اهتمام الحكومة المركزية بتنحيه والاستجابة لاحتياجات سكانه.. فقامت أديس أبابا بتوجيه قوات الجيش إلى الإقليم، وجلب قوات من دولة إريتريا المجاورة «على البحر الأحمر».. وتم اجتياح الإقليم عسكريًا، كما لو أن سكانه ليسوا مواطنين أثيوبيين، وارتكبت قوات الغزو مذابح وحشية ضد السكان المدنيين، وجرائم اغتصاب للنساء والفتيات وسلب ونهب للممتلكات خلال الشهور الثمانية الماضية أسفرت عن قتل ما يتراوح بين (١٥٠ - ٢٠٠ألف) إصابة مئات الآلاف، فضلا عن فقدان مئات الآلاف لمنازلهم ولجوء أعداد كبيرة منهم إلى السودان، وتشرُّد الآخرين فى مناطق مختلفة داخل بلادهم.. وتصرفت القوات الاثيوبية والاريترية فى العاصمة «ميكيلى» وغيرها من مدن وبلدات التيجراى كأنها مدن مستباحة تحت احتلال أجنبى.
الفظائع الوحشية التي ارتكبتها قوات آبى أحمد وحلفاؤه الاريتريون أثارت غضبًا واسعًا فى مختلف أنحاء العالم، وأدانها الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان وعديد من المنظمات الدولية، وفرضت الولايات المتحدة عقوبات ضد آبى أحمد «الحائز على جائزة نوبل للسلام!!» وانتشرت فى الإعلام الغربى مطالبات بتجريده من الجائزة، التى كان حصوله عليها خطأ أصلا، وارتبط بدعم من جهات صهيونية ويمينية أمريكية له.. ولا نبالغ إذا قلنا إن الأمر كان متصلا بمعركة «سد الخراب».. التى يخوضها آبى أحمد بقدر كبير من التطرف والعدوانية ضد مصر والسودان.
عناصر ضاغطة
وقد استغل آبى أحمد أجواء التعبئة السياسية حول قضية «السد» ليتصرف بالوحشية التى أشرنا إليها مع قومية «التيجراى» لكن رد الفعل الدولي تجاه جرائم الحرب التى ارتكبتها إثيوبيا فى التيجراى وتحول إلى عنصر غير مواتٍ لإثيوبيا فى معركة السد وانسحبت القوات الاريترية من الإقليم لتنأى «أسمرة» بنفسها عن حملات الإدانة الدولية، تاركة أديس أبابا وحيدة فى مواجهة هذه الحملات التى أضعفت موقف نظام آبى أحمد دوليا، ليجد نفسه في مواجهة مخاطر عزلة دولية متزايدة فى قضية السد خاصة مع استمرار مواقفه المتعنتة والمراوغة تجاه الحقوق المصرية والسودانية، ورفض الاحتكام إلى مجلس الأمن أو غيره من المنظمات الدولية.
وإذ كانت المواقف الدولية من قضية التيجراى قد أصبحت عنصرا ضاغطا على آبى أحمد للانسحاب من الإقليم، فإن العنصر الداخلى كان ضغطه أشد.. وهو ما يفسِّر الانسحاب الاثيوبى السريع، والذى بدا أقرب إلى الفرار المهين، فإن قوات «الجبهة الشعبية لتحرير التيجراى» لم تتوقف عن شن الهجمات ضد القوات الاثيوبية طوال الأشهر الماضية، وهى الهجمات التى مثلت عنصر استنزاف شديد الوطأة، خاصة بعد انسحاب القوات الاريترية.. علمًا بأن «الجبهة الشعبية» قد تمرست بفنون حرب العصابات ضد السلطة المركزية على مدى عقود، دفاعا عن حقوق «التيجراى».
أشباح الحرب
استمرار وتصاعد التوتر فى منطقة الحدود السودانية - الاثيوبية بالقرب من سد «النهضة» واحتمالات حدوث عمل عسكرى من جانب القوات المصرية والسودانية، تمثل عنصر ضغط شديد هى الأخرى على صانع القرار الاثيوبي، لا تجعله قادرًا على بعثرة قواته فى مختلف أنحاء البلاد، وتركها نهبا للاستنزاف فى حرب أهلية فى أحد أقاليم البلاد.. خاصة أن استنفاد الجهود الدبلوماسية يجعل احتمالات العمل العسكرى المصرى - السودانى تتزايد، ومن ثم فإن سمعة الانسحاب من التيجراى كانت ضرورية بالنسبة لأديس أبابا.
دولة هشة
وبالرغم من الأهمية البالغة لعناصر الضغط التى أشرنا إليها، فإن هناك عنصرا أكثر أهمية منها يتمثل فى خطورة انتشار عدوى التمرد والانفصال إلى بقية الأقاليم الاثيوبية، ذلك أن اثيوبيا دولة متعددة القوميات والأعراق، أهمها وأكبرها «الأمهرا، والأورومو، التى ينتمى إليها آبى أحمد» ومعها عدد كبير من القوميات الأصغر، بعضها تم ضمه لقوام الدولة قسرًا، ومن ثم فقد شهد تاريخها قتالا مستمرا إما من أجل النفوذ والسيطرة، أو من أجل ضم القوميات الأصغر، أو سعى بعض هذه القوميات الأصغر للاستقلال والعودة إلى أحضان الدول التى تم سلخها عنها.. وعلى سبيل المثال فإن دولة أريتريا المطلقة على البحر الأحمر كانت فى وقت سابق جزءا من اثيوبيا، ومنفذًا لها على البحر، وقاتل الاريتريون طويلا حتى تمكنوا من نيل استقلالهم، الأمر الذى أدى لحرمان اثيوبيا من منفذها على البحر.
وفى الوقت الحاضر تحتل اثيوبيا إقليم أوجادي «الصومال الغربى» الذى شهد فى السبعينيات قتالا مريرا حتى تم إخضاعه، لكن النار تحت الرماد، ويبلغ عدد سكانه نحو ستة ملايين نسمة هو الآخر، وهناك منطقة منتزعة من كينيا المجاورة وأخرى منتزعة من جيبوتى جزء من أراضى قبائل العز والعيس، وهناك أيضًا منطقة بنى شنقول القائم عليها سد الخراب، وهى أرض كانت مصرية فى القرن التاسع عشر، ثم آلت إلى السودان، وتنازل عنها الاحتلال البريطانى لاثيوبيا عام ١٩٢٠ مقابل تعهد الأخيرة بعدم إقامة أى منشآت على «النيل الأزرق» بدون موافقة مصر والسودان أو ما يسمى «حق الارتفاق» للقاهرة والخرطوم.
وهناك أيضا أقليات قومية عديدة، منها بالطبع التيجراى الذين تحدثنا عنهم فى بداية مقالنا.. وأغلب هذه القوميات يتجمع أبناؤها فى مكان واحد، وبعضها ينتشرون في مختلف أنحاء البلاد، ومنهم من يعتنق الاسلام «نحو ٤٠٪ من السكان» ومن يعتنق المسيحية الأرثوذكسية أو أديان ومذاهب أخرى.. وهناك تداخلات بين مختلف التركيبات المذكورة.. وتواريخ من النزاعات والثأرات القومية والقبلية..الخ.
ولهذا كله فإن إثيوبيا تعتبر دولة ذات تركيب حسن، يفاقم من هشاشته غياب العلاقات الديمقراطية والأساليب السلمية المتحضرة في تسوية الخلافات والمظالم «العنف هو السائد تاريخيا» وفي توزيع الثروات والموارد فضلا عن اختلاف مستويات التطور بين أقاليم ومناطق البلاد.
شروخ فى الكيان الاثيوبى
هذه الحقائق السياسية والقومية والاجتماعية والتاريخية هى التى تجعل من أثيوبيا كيانا هشًا قابلا للتشقق، وقد حاولت النظم السياسية المتعاقبة فى الفترة الأخيرة أن تجعل من «حلم التنمية» وبناء «سد الخراب» عنصراً وطنياً جامعا ولاحما لكل هذه الفسيفساء من المكونات القومية والعرقية والدينية، لكن نظام «آبى أحمد» مضى أبعد من الجميع فى إذكاء نيران التعصب والتطرف «الوطنى/ الاثيوبى» استنادا إلى تأجيج العداء من الدول المجاورة، وخاصة مصر والسودان وتحقيقا للأحلام التوسعية الامبراطورية القديمة ذات النشأة والأصول «الأمهرية» وبغض النظر عن كونه هو شخصيا ينتمى إلى قومية الأورومو المتنافسة مع الأمهرا.
وما يعنينا هنا هو توضيح أن اثيوبيا ذات التركيبة الهشة أصلا، والمنخرطة فى علاقات عدائية مع أغلب جيرانها تنطوى على عناصر ضعف بنيوية.. وأنها مادامت قد اختارت خندق العداء لمصر، والتطلع إلى تحقيق أحلامها التوسعية الجنونية فى القرن الأفريقى وشرق القارة، من خلال إلحاق أبلغ الضرر بمصر بالذات، بوضع «محبس» على النيل الأزرق مصر ٨٥٪ من مياهنا.. مادام الأمر كذلك فإن أديس أبابا تنخرط فى حالة «عداء تاريخى وجودى» مع مصر، لم نختره نحن، ولم نسع إليه إطلاقا، ولكنه فرض علينا، وبالتالي فإنه حتى لو تم حل الأزمة المصيرية الحالية بالصورة التى ترضى مصر، فإن الخطر سيظل قائما، والصراع سيظل مفتوحا لا يهدأ إلا ليستعر من جديد.. ويستدعى هذا بالضرورة أن نهتم أشد الاهتمام بدراسة أثيوبيا من الداخل وعناصر قوتها وضعتها كدولة وكمجتمع، تاريخيا وفى الوقت الراهن، لأن هذه العناصر كلها ستكون ذات أهمية كبرى لنا فى صراعنا من أجل حماية النيل مصدر حياتنا، ومن أجل حماية مكانة مصر وكرامة شعبها.. وهو صراع لا مفر لنا من خوضه بكل أشكاله السلمية وغير السلمية.
0 تعليق على موضوع : هزيمة «آبى أحمد» المهينة فى تيجراى.. كيف نستفيد منها؟
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات