ليلة الثالث من يوليو عام ٢٠١٣، احتفل عشرات الملايين من المصريين في شوارع بلادهم بإنهاء حكم جماعة الإخوان المسلمين بعد ثورة شعبية جارفة، بينما كان البعض في الدوائر الإعلامية الغربية في حالة صدمة من تطور الأحداث التي أدت إلى إبعاد الرئيس السابق محمد مرسي عن الحكم بعد عام واحد إثر وثيقة توافق بين القوى الوطنية التي استشعرت خطورة بقاء التنظيم الأم لجماعات الإسلام السياسي على مستوى العالم في حكم بلد محوري مثل مصر.
ورغم الغضبة التي قابلت بها دوائر سياسية وإعلامية ونخبوية في الغرب الحركة الشعبية الغاضبة، وسقوط جماعة الإخوان، إلا أنه بعد مرور ٨ سنوات على ثورة قلبت الموازين في مصر والشرق الأوسط مازالت هناك كثير من الحقائق التي يتعين النظر إليها، ليس بمنطق قاصر في تحليل الأحداث يتمسك بالشكل الديمقراطي وحده دون أن يعبأ بخطورة الحكم الديني الذي كانت بشائره قد لاحت في الأفق تحت حكم محمد مرسي؛ مما كان يهدد بتكرار نموذج الثورة الإسلامية في إيران وتغيير وجه الحياة على أرض مصر إلى الأبد.
هناك في الدراسات التاريخية نزعة تميل إلى العودة في تفسير الأحداث بمنطق "ماذا لو what if"؛ حيث الأحداث الفاصلة في تاريخ الشعوب تمثل علامات فارقة وتعتبر ثورة المصريين في ٣٠ يونيو واحدة من تلك المنعطفات التاريخية الفاصلة؛ حتى إن لم تقبل بها بعض الدوائر التي رسمت صورة بعينها لمستقبل مصر والمنطقة يشارك فيه الإسلاميون، بغض النظر عن النتائج الكارثية التي ظهرت من تمكين تيار لا يقبل بالديمقراطية التمثيلية إلا كوسيلة للقفز على السلطة، ثم تحضير المسرح للبقاء في الحكم إلى ما لا نهاية بعد إنهاء كافة البدائل الأخرى.
مازالت ثورة ٣٠ يونيو تسبح ضد تيار كبير من الإجحاف في التقييم في دوائر عديدة في العالم الغربي، تحديدا، حيث مازالت جماعات مصالح بعينها تدافع عن تيار الإسلام السياسي نتيجة وجود علاقات مباشرة، كثير منها يعود إلى سنوات التواصل بين دوائر سياسية وبحثية أمريكية وأوروبية بجماعات الإسلام السياسي من فترات الوقوف معًا ضد تيار القومية العربية وأيضًا من بقايا التواصل الوثيق خلال الحرب الباردة وتوظيف قوى الإسلام السياسي في المواجهة ضد الشيوعية على مسرح الشرق الأوسط لأكثر من عقدين من الزمن.
إن الثورة الشعبية في مصر أسقطت فكرة التعايش مع تيارات تمزج السياسة بالدين التي يروج لها في الدوائر الغربية بدعوى أن هناك خصوصية للمجتمعات العربية والمسلمة ينبغي الرجوع إليها عند تشجيع الخيار الديمقراطي في تلك الدول التي عانت كثيرًا تحت وطأة الفساد والمحسوبية، ومن ثم، قدمت التيارات الإسلامية نفسها باعتبارها تملك الحلول السحرية للأوضاع بحكم التأثير الضخم للدين في الشارع العربي والإسلامي.
في كثير من الحوارات مع خبراء في الدوائر الأمريكية والأوروبية في السنوات القليلة الماضية، حضر السؤال السابق "ماذا لو فشلت ثورة ٣٠ يونيو؟"، وكانت الإجابة تأتي من الطرف الغربي دائمًا بأنه لا يمكن الحكم على تجربة - مهما كانت الدوافع وراء الخروج الشعبي الجارف ضدها - في شهور قليلة، بل لابد من منحها الوقت وتصحيح مسارها من خلال الممارسة الديمقراطية.
حسنا، يصلح المنطق السابق عندما لا تكون لديك الأدبيات الدينية والسياسية التي تمنح تيارات الإسلام السياسي المسوغات اللازمة من أجل الانقضاض على الحكم وإنهاء مبدأ تداول السلطة في فترة وجيزة. فالأدبيات التي تركها أمراء العنف والقتل - وعدد منهم أفرج محمد مرسي عنهم بعد انتخابه بشهور قليلة بمن فيهم من شاركوا في اغتيال الرئيس أنور السادات ودعاهم لحضور عرض عسكري في إستاد القاهرة يوم ٦ أكتوبر ٢٠١٢ - تقول إن جماعات الإسلام السياسي كانت تنتظر لحظة الوثوب على السلطة والدخول في صدام مباشر مع التيارات الأخرى التي يرونها معادية للدين الإسلامي.
إن الرهان على الحلول التوافقية في الديمقراطية التمثيلية أثبتت فشلها في المجتمعات التي حاولت إيجاد صيغة تعايش من النوع السابق بين الإسلاميين من حانب والتيارات الليبرالية من جانب آخر، وبدلا من انحياز المناصرين للديمقراطية التمثيلية "الحقيقية" في الأوساط الغربية لمبدأ عدم خلط الدين بالسياسة، وما يعقبه من أزمات في الممارسة، يدافعون عن حقوق التيارات غير الديمقراطية في استخدام الديمقراطية وسيلة للخداع والوصول إلى السلطة برغم أن الأدبيات الإقصائية بين أيادينا، ونعرف إلى ما تقود المجتمعات لو تمكن الإسلاميون من السيطرة على السلطة.
من أكبر المغالطات الادعاء بأن من يدافعون عن تماسك المجتمعات وحرية العقيدة وحقوق الأقليات وحقوق المرأة هم أعداء الديمقراطية، بينما من يفتون بإقصاء الآخر والانتقاص من حقوق الأقليات وتحجيم دور المرأة هم المدافعون عن التحول الديمقراطي، مثلما يجري اليوم في عدد من الدوائر البحثية وبعض منصات حقوق الإنسان التي لا توجد أدنى شفافية في الآراء أو الأحكام أو طبيعة تمويلها.
لا يكفي أن تشكل حزبا سياسيا بمرجعية دينية حتى يكون لك الحق في ممارسة الديمقراطية والتعددية السياسية في البلاد، فلابد من حماية خيارات الديمقراطية من خلال بناء قوي للدولة الوطنية لا يجعلها عرضة لسيطرة تيار وحيد على العملية السياسية أو الدخول في صراع يفضي إلى حرب أهلية مثلما كان عليه الحال في مصر قبل يوم ٣٠ يونيو ٢٠١٣.
إن الكتلة الحرجة من الشعب المصري في ٣٠ يونيو اختارت التماسك الوطني وإنقاذ الدولة الوطنية باعتباره أولوية قصوى، وهو المبدأ الحاكم للتحرك الشعبي قبل ٣٠ يونيو الذي لم تستوعبه تيارات بعينها في الخارج وتخيلت أنه يمكن اختزال الأمر فقط في تدابير ومؤمرات من الدولة العميقة للإطاحة برئيس منتخب؛ بينما واقع الأمر أن الرئيس المنتخب لم يكن سوى رئيس بالوكالة عن جماعة الإخوان المسلمين.
نأتي إلى إجابة سؤال: ماذا لو فشلت ثورة ٣٠ يونيو؟
السؤال ليس افتراضيًا بقدر ما يحمل إشارة إلى الخطر الذي منعته الثورة الشعبية في ٣٠ يونيو، فنظرة إلى ما آلت إليه الأمور في مدة ١٢ شهرًا من حكم جماعة الإخوان سنجد انهيارًا كاملًا في الوضع المالي والاقتصادي وفشل في إدارة الدولة على نحو لم تعهده مصر في تاريخها الحديث، وهو ما استتبعه قيام مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان بالمضي في خطوات استثنائية تضع كل السلطات في قبضة الرئيس وحده في ظل موجة عداء ضد مؤسسات الدولة وأهمها الجيش والقضاء والشرطة والاستخبارات والجهاز الدبلوماسي؛ حيث كانت الجماعة تخطط لأكبر عملية إحلال يتم بموجبها تمكين كوادر الجماعة من الأجهزة السيادية واستبعاد غير الموالين أو المتعاطفين أو المؤتمنين من جانب الجماعة.
وفي تلك الأثناء، كانت قيادات الجماعة تعد قوائمها لعملية الإحلال والتجديد وفقًا للولاء للجماعة؛ بينما انشغل جناح آخر بعملية عقد صفقات مع الجماعات المتشددة الأخرى من أجل تنصيب الجماعة - الأم - وكيلًا شرعيًا لجماعات الإسلام السياسي وإجراء مصالحات عقائدية فيما بينهم تمهيدًا لمنحهم امتيازات ومكاسب سياسية تتناسب مع معاركهم التي خاضوها تحت راية الجهاد معًا لمدة أكثر من ٤٠ عامًا منذ ظهور الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد وصولًا إلى تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية "داعش".
تزامن مع تلك الخطوات، ارتفاع وتيرة التوتر الطائفي في الداخل وبدء عملية الفرز على أسس دينية؛ حيث كانت الإشارات واضحة إلى أن الدولة التي تريدها الجماعة تختلف عن مفهوم الدولة الوطنية أو الحديثة، فلا مكان للأقلية المسيحية إلا بقدر ما تسمح به الجماعة، ودون أدنى اعتبار للمواطنة ولقواعد الجدارة والكفاءة.
لم تكن الأوضاع على أفضل ما يكون قبل وصول الإخوان للسلطة فيما يتعلق بقضايا عديدة ومنها المواطنة وحقوق المرأة، إلا أن الخلاف مع الحكومات السابقة كان تحت مظلة "الدولة المدنية" civic-state، فلما جاء الإخوان دخلت مصر في نطاق جديد من عدم الاستقرار يتعلق بتهديد "الدولة الوطنية" nation-state تحت حكم جماعة دينية متشددة يحكمها تنظيم سري، ومن ثم تنبهت أجهزة الدولة إلى خطر الإنزلاق إلى حرب أهلية.
لم يكن الجيش المصري بعيدًا عن مرمى جماعة الإخوان، فهناك علاقة "ثأرية" بين التنظيم وبين المؤسسات الفاعلة والقوية في الدولة؛ على سبيل المثال، كان تنظيم الإخوان يحضر لاستدراج جيش مصر إلى لعبة حروب الوكالة، خاصة في سوريا، وهو ما ظهر بوضوح في إعلان الجهاد يوم العرض العسكري في أكتوبر ٢٠١٢؛ حيث سمحت الجماعة لحلفائها من التنظيمات الإرهابية الأخرى بإرسال مرتزقة إلى سوريا وهو ما فتح صفحة جديدة في قصة المرتزقة على الأراضي السورية ومن هؤلاء قيادات أفرج عنها مرسي بعفو في قضايا اغتيال شخصيات عامة والقيام بعمليات إرهابية في عقود سابقة، ما يعلمه الكثيرون من المطلعين في الأوساط الغربية أن التورط المصري في سوريا وإمكانية توظيف قوات مصرية في حروب الوكالة في مناطق الصراعات كان سيعد بمثابة "عربون التحالف المرتقب" بين الإخوان وبين دول غربية.
كل الملابسات السابقة قادت إلى خروج ملايين المصريين ضد حكم الإخوان، وتبع خروج عشرات الملايين توظيف التنظيم لمجموعات موالية وبدأت عملية حشد مدفوعة الثمن، حسب التحقيقات، من كل أنحاء البلاد لمواجهة الغضب الجماهيري الواسع المطالب بإزاحة الجماعة عن الحكم، ولم ينجح حشد الجماعة أو الاستغاثة بقوى خارجية في إعادة رجل الجماعة إلى قصر الرئاسة، فكان ميدان رابعة العدوية في شرق القاهرة مسرحًا لصناعة بكائية الجماعة الجديدة.
ساهمت وسائل إعلام عالمية على صلة وثيقة بالجماعة في تعميق الإحساس لدى قادة منصة رابعة بأن جموع المصريين تقف وراء الإخوان وخطابها، وهي وسائل الإعلام نفسها التي لم تعر ما جرى من هجمات على دور العبادة المسيحية في سائر أنحاء البلاد اهتمامًا واعتبرته يدخل في نطاق العنف المتبادل بين طرفين (!)، سواء كانت وسائل الإعلام الغربية تطلق على ما حدث ثورة أو انقلابًا، فإن الحقيقة المؤكدة فيما جرى أن إرادة غالبية من المصريين فرضت نفسها على المستويين الداخلي والخارجي وهو ما دفع حكومات عديدة إلى إعادة النظر في طريقة التعامل مع السلطة الانتقالية ثم انتخاب الرئيس عبدالفتاح السيسي في عام ٢٠١٤.
بعد ثماني سنوات، تخطت مصر التبعات السلبية لسنة حكم الإخوان وتمضي في طريق مغاير تمامًا لما أراد المشروع الإخواني فرضه على البلاد، يقود الرئيس السيسي عملية تنموية هائلة بشهادة مؤسسات دولية وتقوم الحكومة بأكبر عملية إعادة تأهيل للبنية التحتية في سائر أنحاء البلاد، فيما أطلقت برامج تستهدف رفع مستوى المعيشة وكفاءة الحياة في الريف المصري في عملية عنوانها الرئيسي هو "الإنسان المصري".
كما أقرت قوانين لترسيخ المواطنة وتمكين المرأة وتحقيق المساواة على أرضية المواطنة الكاملة للجميع؛ حيث تتبنى الدولة سياسة الحقوق الشاملة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية لكافة المواطنين بعد أن استوعبت الدولة أن غياب مظلة الحماية الاجتماعية عن جموع المواطنين يؤدي إلى وقوع قطاعات من المجتمع في براثن جماعات الفكر المتطرف.
في الإطار نفسه، ينصب الاهتمام على تعديل ورفع مستوى المناهج التعليمية وتعميق ثقافة التسامح وقبول الآخر، ومن منطلق أن السياسة الخارجية تبدأ من الداخل، بدأت مصر في الأعوام الأخيرة في حصد ثمار سياسات الداخل التي تسير على وتيرة جيدة.
فقد حققت مصر نجاحات في الحرب على الإرهاب وفرضت رؤيتها في كيفية مواجهة الجماعات الدموية والحفاظ على الدولة الوطنية في الإقليم، وهو ما أكده الرئيس السيسي في خطاباته الأولى بعد توليه السلطة، ثم جاءت عملية استعادة الدور الإقليمي لمصر في مرحلة تالية؛ حيث وضعت خطوطًا حمراء على تحركات دول تطمع في نصيب من المنطقة العربية الممزقة بفعل الحروب الداخلية وقد أثمرت سياسة الخط الأحمر نتيجة جيدة في ليبيا، وتقوم اليوم بدور مهم قبل التحضير للانتخابات العامة الليبية في ديسمبر المقبل.
وعلي صعيد القضية الفلسطينية، عادت مصر إلى الواجهة لرعاية اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة وتستضيف محادثات الهدنة الدائمة بين إسرائيل والفلسطينيين، كما قامت مصر بعملية تحديث شاملة للقوات المسلحة وإنشاء الأسطول الجنوبي لحماية الحدود والمياه الإقليمية في إطار رؤية متكاملة للأمن القومي المصري.
كل مظاهر غياب الأمن والاستقرار في عام حكم الإخوان تعامل معها الرئيس السيسي والدولة المصرية برؤية أشمل، فرغم ضربات الإرهاب المتتالية شرعت مصر في عملية تنمية واسعة وعالجت الآثار السلبية لوجود الإسلاميين في السلطة بإجراءات وقوانين لترسيخ المواطنة وطمأنة كل الفئات دون استثناء، وهو ما جعل الإجابة عن السؤال في بداية المقال أمرًا سهلًا، فهناك رصيد كبير من الإنجازات الملموسة التي ربما يصعب أن تخلق حالة إجماع على السياسات المصرية الحالية في وسائل الإعلام الغربية، التي مازالت تنظر إلى الوضع الداخلي باعتباره يحمل سلبيات كثيرة، إلا أن نظرة على الأسباب التي دفعت المصريين للثورة في ٣٠ يونيو وإلى كيفية استتباب الأوضاع وانطلاق برنامج واسع للإصلاحات وتقديم مصر دولة تسعى للسلام والحفاظ على تماسك المجتمعات في الإقليم كفيلة بإعادة قراءة المشهد المصري بشكل أكثر إنصافًا وواقعية.
---
لو فشلت ثورة ٣٠ يونيو لكانت العواقب كارثية على مستوى التماسك الاجتماعي داخليًا، ولكان وجه الدولة المصرية قد تغير بشكل درامي وتحولت الدولة التي كانت تمثل عنصر التوازن والحكمة في أوقات الأزمات إلى دولة مصدرة لكل أنواع التطرف والإرهاب بكل ما يحمله التحول من نتائج كارثية على كل دول المنطقة.
إن الرهان على الحلول التوافقية في الديمقراطية التمثيلية أثبتت فشلها في المجتمعات التي حاولت إيجاد صيغة تعايش من النوع السابق بين الإسلاميين من حانب والتيارات الليبرالية من جانب آخر، وبدلا من انحياز المناصرين للديمقراطية التمثيلية "الحقيقية" في الأوساط الغربية لمبدأ عدم خلط الدين بالسياسة، وما يعقبه من أزمات في الممارسة، يدافعون عن حقوق التيارات غير الديمقراطية في استخدام الديمقراطية وسيلة للخداع والوصول إلى السلطة برغم أن الأدبيات الإقصائية بين أيادينا، ونعرف إلى ما تقود المجتمعات لو تمكن الإسلاميون من السيطرة على السلطة.
من أكبر المغالطات الادعاء بأن من يدافعون عن تماسك المجتمعات وحرية العقيدة وحقوق الأقليات وحقوق المرأة هم أعداء الديمقراطية، بينما من يفتون بإقصاء الآخر والانتقاص من حقوق الأقليات وتحجيم دور المرأة هم المدافعون عن التحول الديمقراطي، مثلما يجري اليوم في عدد من الدوائر البحثية وبعض منصات حقوق الإنسان التي لا توجد أدنى شفافية في الآراء أو الأحكام أو طبيعة تمويلها.
لا يكفي أن تشكل حزبا سياسيا بمرجعية دينية حتى يكون لك الحق في ممارسة الديمقراطية والتعددية السياسية في البلاد، فلابد من حماية خيارات الديمقراطية من خلال بناء قوي للدولة الوطنية لا يجعلها عرضة لسيطرة تيار وحيد على العملية السياسية أو الدخول في صراع يفضي إلى حرب أهلية مثلما كان عليه الحال في مصر قبل يوم ٣٠ يونيو ٢٠١٣.
إن الكتلة الحرجة من الشعب المصري في ٣٠ يونيو اختارت التماسك الوطني وإنقاذ الدولة الوطنية باعتباره أولوية قصوى، وهو المبدأ الحاكم للتحرك الشعبي قبل ٣٠ يونيو الذي لم تستوعبه تيارات بعينها في الخارج وتخيلت أنه يمكن اختزال الأمر فقط في تدابير ومؤمرات من الدولة العميقة للإطاحة برئيس منتخب؛ بينما واقع الأمر أن الرئيس المنتخب لم يكن سوى رئيس بالوكالة عن جماعة الإخوان المسلمين.
نأتي إلى إجابة سؤال: ماذا لو فشلت ثورة ٣٠ يونيو؟
السؤال ليس افتراضيًا بقدر ما يحمل إشارة إلى الخطر الذي منعته الثورة الشعبية في ٣٠ يونيو، فنظرة إلى ما آلت إليه الأمور في مدة ١٢ شهرًا من حكم جماعة الإخوان سنجد انهيارًا كاملًا في الوضع المالي والاقتصادي وفشل في إدارة الدولة على نحو لم تعهده مصر في تاريخها الحديث، وهو ما استتبعه قيام مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان بالمضي في خطوات استثنائية تضع كل السلطات في قبضة الرئيس وحده في ظل موجة عداء ضد مؤسسات الدولة وأهمها الجيش والقضاء والشرطة والاستخبارات والجهاز الدبلوماسي؛ حيث كانت الجماعة تخطط لأكبر عملية إحلال يتم بموجبها تمكين كوادر الجماعة من الأجهزة السيادية واستبعاد غير الموالين أو المتعاطفين أو المؤتمنين من جانب الجماعة.
وفي تلك الأثناء، كانت قيادات الجماعة تعد قوائمها لعملية الإحلال والتجديد وفقًا للولاء للجماعة؛ بينما انشغل جناح آخر بعملية عقد صفقات مع الجماعات المتشددة الأخرى من أجل تنصيب الجماعة - الأم - وكيلًا شرعيًا لجماعات الإسلام السياسي وإجراء مصالحات عقائدية فيما بينهم تمهيدًا لمنحهم امتيازات ومكاسب سياسية تتناسب مع معاركهم التي خاضوها تحت راية الجهاد معًا لمدة أكثر من ٤٠ عامًا منذ ظهور الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد وصولًا إلى تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية "داعش".
تزامن مع تلك الخطوات، ارتفاع وتيرة التوتر الطائفي في الداخل وبدء عملية الفرز على أسس دينية؛ حيث كانت الإشارات واضحة إلى أن الدولة التي تريدها الجماعة تختلف عن مفهوم الدولة الوطنية أو الحديثة، فلا مكان للأقلية المسيحية إلا بقدر ما تسمح به الجماعة، ودون أدنى اعتبار للمواطنة ولقواعد الجدارة والكفاءة.
لم تكن الأوضاع على أفضل ما يكون قبل وصول الإخوان للسلطة فيما يتعلق بقضايا عديدة ومنها المواطنة وحقوق المرأة، إلا أن الخلاف مع الحكومات السابقة كان تحت مظلة "الدولة المدنية" civic-state، فلما جاء الإخوان دخلت مصر في نطاق جديد من عدم الاستقرار يتعلق بتهديد "الدولة الوطنية" nation-state تحت حكم جماعة دينية متشددة يحكمها تنظيم سري، ومن ثم تنبهت أجهزة الدولة إلى خطر الإنزلاق إلى حرب أهلية.
لم يكن الجيش المصري بعيدًا عن مرمى جماعة الإخوان، فهناك علاقة "ثأرية" بين التنظيم وبين المؤسسات الفاعلة والقوية في الدولة؛ على سبيل المثال، كان تنظيم الإخوان يحضر لاستدراج جيش مصر إلى لعبة حروب الوكالة، خاصة في سوريا، وهو ما ظهر بوضوح في إعلان الجهاد يوم العرض العسكري في أكتوبر ٢٠١٢؛ حيث سمحت الجماعة لحلفائها من التنظيمات الإرهابية الأخرى بإرسال مرتزقة إلى سوريا وهو ما فتح صفحة جديدة في قصة المرتزقة على الأراضي السورية ومن هؤلاء قيادات أفرج عنها مرسي بعفو في قضايا اغتيال شخصيات عامة والقيام بعمليات إرهابية في عقود سابقة، ما يعلمه الكثيرون من المطلعين في الأوساط الغربية أن التورط المصري في سوريا وإمكانية توظيف قوات مصرية في حروب الوكالة في مناطق الصراعات كان سيعد بمثابة "عربون التحالف المرتقب" بين الإخوان وبين دول غربية.
كل الملابسات السابقة قادت إلى خروج ملايين المصريين ضد حكم الإخوان، وتبع خروج عشرات الملايين توظيف التنظيم لمجموعات موالية وبدأت عملية حشد مدفوعة الثمن، حسب التحقيقات، من كل أنحاء البلاد لمواجهة الغضب الجماهيري الواسع المطالب بإزاحة الجماعة عن الحكم، ولم ينجح حشد الجماعة أو الاستغاثة بقوى خارجية في إعادة رجل الجماعة إلى قصر الرئاسة، فكان ميدان رابعة العدوية في شرق القاهرة مسرحًا لصناعة بكائية الجماعة الجديدة.
ساهمت وسائل إعلام عالمية على صلة وثيقة بالجماعة في تعميق الإحساس لدى قادة منصة رابعة بأن جموع المصريين تقف وراء الإخوان وخطابها، وهي وسائل الإعلام نفسها التي لم تعر ما جرى من هجمات على دور العبادة المسيحية في سائر أنحاء البلاد اهتمامًا واعتبرته يدخل في نطاق العنف المتبادل بين طرفين (!)، سواء كانت وسائل الإعلام الغربية تطلق على ما حدث ثورة أو انقلابًا، فإن الحقيقة المؤكدة فيما جرى أن إرادة غالبية من المصريين فرضت نفسها على المستويين الداخلي والخارجي وهو ما دفع حكومات عديدة إلى إعادة النظر في طريقة التعامل مع السلطة الانتقالية ثم انتخاب الرئيس عبدالفتاح السيسي في عام ٢٠١٤.
بعد ثماني سنوات، تخطت مصر التبعات السلبية لسنة حكم الإخوان وتمضي في طريق مغاير تمامًا لما أراد المشروع الإخواني فرضه على البلاد، يقود الرئيس السيسي عملية تنموية هائلة بشهادة مؤسسات دولية وتقوم الحكومة بأكبر عملية إعادة تأهيل للبنية التحتية في سائر أنحاء البلاد، فيما أطلقت برامج تستهدف رفع مستوى المعيشة وكفاءة الحياة في الريف المصري في عملية عنوانها الرئيسي هو "الإنسان المصري".
كما أقرت قوانين لترسيخ المواطنة وتمكين المرأة وتحقيق المساواة على أرضية المواطنة الكاملة للجميع؛ حيث تتبنى الدولة سياسة الحقوق الشاملة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية لكافة المواطنين بعد أن استوعبت الدولة أن غياب مظلة الحماية الاجتماعية عن جموع المواطنين يؤدي إلى وقوع قطاعات من المجتمع في براثن جماعات الفكر المتطرف.
في الإطار نفسه، ينصب الاهتمام على تعديل ورفع مستوى المناهج التعليمية وتعميق ثقافة التسامح وقبول الآخر، ومن منطلق أن السياسة الخارجية تبدأ من الداخل، بدأت مصر في الأعوام الأخيرة في حصد ثمار سياسات الداخل التي تسير على وتيرة جيدة.
فقد حققت مصر نجاحات في الحرب على الإرهاب وفرضت رؤيتها في كيفية مواجهة الجماعات الدموية والحفاظ على الدولة الوطنية في الإقليم، وهو ما أكده الرئيس السيسي في خطاباته الأولى بعد توليه السلطة، ثم جاءت عملية استعادة الدور الإقليمي لمصر في مرحلة تالية؛ حيث وضعت خطوطًا حمراء على تحركات دول تطمع في نصيب من المنطقة العربية الممزقة بفعل الحروب الداخلية وقد أثمرت سياسة الخط الأحمر نتيجة جيدة في ليبيا، وتقوم اليوم بدور مهم قبل التحضير للانتخابات العامة الليبية في ديسمبر المقبل.
وعلي صعيد القضية الفلسطينية، عادت مصر إلى الواجهة لرعاية اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة وتستضيف محادثات الهدنة الدائمة بين إسرائيل والفلسطينيين، كما قامت مصر بعملية تحديث شاملة للقوات المسلحة وإنشاء الأسطول الجنوبي لحماية الحدود والمياه الإقليمية في إطار رؤية متكاملة للأمن القومي المصري.
كل مظاهر غياب الأمن والاستقرار في عام حكم الإخوان تعامل معها الرئيس السيسي والدولة المصرية برؤية أشمل، فرغم ضربات الإرهاب المتتالية شرعت مصر في عملية تنمية واسعة وعالجت الآثار السلبية لوجود الإسلاميين في السلطة بإجراءات وقوانين لترسيخ المواطنة وطمأنة كل الفئات دون استثناء، وهو ما جعل الإجابة عن السؤال في بداية المقال أمرًا سهلًا، فهناك رصيد كبير من الإنجازات الملموسة التي ربما يصعب أن تخلق حالة إجماع على السياسات المصرية الحالية في وسائل الإعلام الغربية، التي مازالت تنظر إلى الوضع الداخلي باعتباره يحمل سلبيات كثيرة، إلا أن نظرة على الأسباب التي دفعت المصريين للثورة في ٣٠ يونيو وإلى كيفية استتباب الأوضاع وانطلاق برنامج واسع للإصلاحات وتقديم مصر دولة تسعى للسلام والحفاظ على تماسك المجتمعات في الإقليم كفيلة بإعادة قراءة المشهد المصري بشكل أكثر إنصافًا وواقعية.
---
لو فشلت ثورة ٣٠ يونيو لكانت العواقب كارثية على مستوى التماسك الاجتماعي داخليًا، ولكان وجه الدولة المصرية قد تغير بشكل درامي وتحولت الدولة التي كانت تمثل عنصر التوازن والحكمة في أوقات الأزمات إلى دولة مصدرة لكل أنواع التطرف والإرهاب بكل ما يحمله التحول من نتائج كارثية على كل دول المنطقة.
0 تعليق على موضوع : ماذا لو فشلت ثورة ٣٠ يونيو؟
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات