بشّرنا وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان، في المؤتمر الصحفي الذي جمعه في باريس مع نظيره الأميركي أنتوني بلينكن الجمعة، أن رؤى باريس وواشنطن متطابقة حيال الأزمة في لبنان، وأن البلدين يعرفان جيدا السياسيين اللبنانيين الذين يعرقلون تشكيل حكومة جديدة، وأنهما سيعملان سوية للضغط على "أصحاب المعاصي". بيد أن في ثنايا الكلام خطايا وكبائر!
واللافت أن "أصحاب المعاصي" المعنيين في لبنان، لم يقرأوا جديدا مقلقا في "بشارة" الوزير الفرنسي. تتخصب إشارات باريس وواشنطن بمضمون يتقصد إغفال العلّة، وتعميم مسبباتها، والقفز على حقيقة أن للأزمة بوابات فرعية تتحكم بها كلها بوابة رئيسية كبرى يحمل مفتاحها حزب الله وإيران من ورائه.
غير صحيح أن المجتمع الدولي، ومن خلال المبادرة الفرنسية التي حملها الرئيس إيمانويل ماكرون (في أغسطس الماضي) يشترط حكومة تكنوقراط مستقلة عن الطبقة السياسية التي يحمّلها الوزيرين، الفرنسي والأميركي، مسؤولية الانهيار الكبير. ما كان يريده ماكرون هو قيام حكومة "متفق عليها"، لها شكل تكنوقراطي، دون أي يكون هذا الشكل إلزاميا حتمياً ونهائيا.
بمعنى آخر أنه لو اتفقت الطبقة السياسية أن تتجاوز حركة الشارع الغاضب ولا تعيره بالاً ولا تهتم لشعاره الشهير "كلن يعني كلن" وذهبت نحو تشكيل حكومة تتواطأ فيما بينها داخلها، لاضطرت الدول المانحة أن تتعامل مع لبنان، ولراحت باريس تروّج بفرح لنجاح مبادرتها. ولو قيّض لهذه الطبقة السياسية أن تتفق على ما كانت تتفق عليه من تقاسم ومحاصصة، لكان بإمكان مكوناتها أن تدجّن الشارع المنتفض وتشقّ وحدته من خلال ما تمتلكه من نفوذ عتيق وخبرات مكيافيلية تنهل من خزان طائفي مذهبي لا ينضب.
والحال أنه فيما يتحدث المنتفضون كثيراً عن قدراتهم على تعطيل النهج المافياوي في البلد، إلا أن الحقيقة هي أن الأزمة غير المسبوقة في لبنان تكمن في أن ذلك النهج قد تعطل ذاتيا بسبب عجز أصحابه، على غير عادتهم، عن التوافق على تقاسم السلطة والثروة، وأن ما يطلبه المجتمع الدولي، "الغيور" على بقاء لبنان (وعدم اختفائه وفق مخاوف لو دريان)، هو حثّ هذه الطبقة السياسية على العودة للاتفاق بما يعيد تشغيل البلد بالحد الأدنى. ذلك أنه مطلوب من لبنان لعب أدوار في تبريد التوتر، والقيام بوظائفه في ضبط الأمن، وإدارة أزمة اللاجئين، والتموضع وفق القواعد والشروط التي يفرضها الواقع الجديد لسوق الطاقة في شرق المتوسط.
ما زال الغرب، وفق التوافق الموعود لباريس وواشنطن، يدّعي مقاربة أزمة لبنان بالنهل من تفاصيله المحلية. فحين يتواطأ العالم لتجهيل الفاعل في كارثة مرفأ بيروت، وحين تفشل حكومة حسان دياب وتخفق محاولات تشكيل حكومة جديدة من مصطفى أديب إلى سعد الحريري، فإن في الأمر قرار في عدم تسليط الضوء على البوابة الكبرى للأزمة التي يتحكم بها حزب الله، والذهاب إلى طرق الأبواب الفرعية والزعم بالغضب من استعصاء اقفالها.
تفاوض واشنطن وباريس طهران في فيينا لإعادة الحياة إلى اتفاق فيينا الذي أبرمته مجموعة الـ 5+1 مع إيران عام 2015. وفيما جولات المفاوضات تتناول مسائل تقنية مثل تمديد عمر الاتفاق ومعدلات تخصيب اليورانيوم ومصير أجهزة التخصيب المتطورة وآليات المراقبة التي تمارسها الوكالة الدولية للطاقة الذرية.. إلخ، تعمل إيران على تفعيل كل أوراقها من أجل تحسين شروط الاتفاق المعدل وتأمين مستقبلها الجيوسياسي في المنطقة في ظل الاتفاق المعدل.
يمثل لبنان، كما العراق وسوريا واليمن وملفات أخرى، ورقة إيرانية أساسية على طاولة أي تماس مع المجتمع الدولي. تمتلك إيران، من خلال حزب الله، إطلالة على البحر المتوسط الذي تهتم لخيراته هذه الأيام عواصم كبرى شرقا وغربا. وتمتلك إيران في هذا البلد إطلالة أمنية وعسكرية مقلقة بالنسبة لإسرائيل، وهي ورقة تحتكر طهران اقتناءها في لبنان على نحو يختلف عن حالها في سوريا، حيث تحول الضغوط الروسية دون تحكمها بالحدود مع الجولان. وتمتلك إيران قرار العقد والحل فيما يتعلق بترسيم الحدود مع إسرائيل، وهو ملف تتولاه الولايات المتحدة دون كلل، ولم تتخلف عن متابعته في ظل كل الإدارات التي تعاقبت على الحكم في واشنطن.
تمثّلت العقدة الأولى لتشكيل حكومة ترضى عنها مبادرة ماكرون في التمسك بـ "التوقيع الشيعي" من خلال التمسك بأن تعهد وزارة المالية إلى شيعي، وهو أمر رعاه بشدة حزب الله. وحين بدا أن هذه العقدة حُلت وتم تجاوزها والقبول بقدريتها، تولى فريق الرئيس ميشال عون، بإدارة وريثه المفترض جبران باسيل، إطلاق عِقد دستورية ميثاقية طائفية تعجيزية تهدف بالنهاية إلى منع قيام الحكومة العتيدة. وبغض النظر عن حيثيات الأمر ووجاهة الحجج أو خوائها، فإن التعطيل يستقوي بقرار حزب الله بعدم تشكيل حكومة دون أن تقبض إيران ثمن ذلك سواء في مداولات جنيف أو ما بعدها.
يعرف لودريان (كما نظيره الأميركي) أن السياسيين الذين يعطلون تشكيل الحكومة (وقال إنه يعرفهم) لا يمتلكون أصلا قوة التعطيل ومواهبه في غياب رعاية كاملة من حزب الله. حتى أن فكرة التعطيل منذ إقفال مجلس النواب وغزوة "7أيار" واتفاق الدوحة.. إلخ هي في الأساس من أعمدة تحكم الحزب بالقرار السياسي، بما في ذلك تشكيل أو تعطيل قيام أي حكومة في لبنان. وعليه فإن مصلحة لبنان، وفق رؤى باريس وواشنطن، ليست أولوية عند الحزب الذي يجاهر بالولاء للولي الفقيه واضعا الجمهورية الإسلامية أولوية عقيدية حتى لو جاءت على حساب لبنان وبقائه.
قد تتفتق عبقرية باريس عن قرار لفرض عقوبات على البوابات الفرعية في لبنان. غير أن ذلك لن يغير من أمر الأزمة شيئا، طالما أنها وواشنطن وحلفاؤهما يرفضون الاعتراف بالبوابة الأساسية التي يسيطر بها حزب الله على البلد، ويرفضون الإقرار بأن لمقاربتهم في فيينا علاقة مباشرة مع أقفال تلك البوابة التي قد تقرر خنق البلد أو انعاشه من جديد.




0 تعليق على موضوع : لبنان.. الاتفاق المشوه بين باريس وواشنطن!
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات